تقارير أمريكية قالت أن نجاح إضراب السادس من ابريل يعكس الغضب العارم تجاه النظام، لكن الشعب المصري ما يزال غير مستعد للثورة، على حد قول هؤلاء الأمريكان في تلك الصحف.
إضراب وثورة، ومظاهرات وقتلى في المحلة الكبرى، واعتقالات في كل المحافظات، ودرجة حرارة أعصاب الناس وصلت للغليان من غلاء الأسعار، وتراكم الأزمات، وتراجع الخدمات، وغموض الأفق، وتصاعد القلق بشأن الغد الذي يبدو غامضاً ملتبساً!!
طاقة عنف مخزونة أدعو الله أن لا تنفجر يوماً، ولا أدري كيف لا ينفجر العنف والكمد المكبوت طوال عقود؟؟!!
عنف أعمى يمكن أن يحرق كل شيء وكل أحد لسنوات وسنوات، عنف الرد على العنف والاحتقار، وانتهاك أبسط حقوق الإنسانية بل الآدمية، وتراكم عقود من الإذلال والمهانة والجوع والحرمان من الأساسيات : الطعام والسكن والعلاج، والجنس عند من يعتبرونه ضرورة حياة!!
مصر مهددة بفوضى، بثورة رعاع لا يمكن مقارنتها بحركات جياع منظمة لها مطالب وأهداف، والسلطة التي احتكرت واحتقرت، وفسدت وأفسدت، وضلت وأضلت لن تستطيع فعل شيء إذا قامت القيامة، وهي توشك أن تقوم، ونحن عن ذلك غافلون!!!! جيوش الرعاع تملأ الشوارع يسيرون فرادى، يتوارون خلف أقنعة دين، أو مظاهر بسيطة تحاول الاندماج في تيار الزيف العام، وكأنهم يعيشون، بينما هم خارج الزمان والمكان والعيش الأدنى، ملايين ممن لا عمل محدد لهم، ولا تعليمَ تلقوه ينفعهم، ولا تأديب ولا تهذيب ولا تربية، بعضهم أتى من ريفٍ يبحث عن حياة أفضل، وآخرون لفظتهم مدنٌ قاسية فصاروا بلا مأوى ولا وعي، ولا شيء سوى العشوائية في التفكير والسلوك، ومثلهم ملايين تخطت خط الفقر بوظائف مستقرة نوعا ما، ومظاهر عيش إنساني أفضل، لكن نفس العشوائية في التعاطي مع الحياة موجودة عندهم ومستفحلة!!
العشوائية نهج وفلسفة وطابع وأسلوب إدارة للذات، وهي الحاكم الأغلب في إدارتنا لمشكلاتنا وأيامنا وقضايانا، وهي قاسم مشترك بين الأغلبية الساحقة من أهلنا في الوطن العربي، قاسم عابر للطائفية والطبقية!! ملايين من العشوائيين نعيش بينهم، وبعضنا منهم! إنها نزعة تدميرية أغلبها كامن، وأقلها يطل برأسه بين حينٍ وآخر فيظن السذج –وأغلبنا سذج- أننا بصدد ظواهر متفرقة من إجرام أو انحطاط أداء هنا أو هناك، بينما هي العشوائية الحاكمة الرابضة المسيطرة تتجلى هنا وهناك!! وفي كل واحد منا عشوائية ما!! والعنف مظهر من مظاهر العشوائية والتعصب والإفلاس العام عن طرح حلول أو إدارة حوارات أو رسم خرائط علاج!!
أرجو أن أكون مخطئا وأنا أقول وأتوقع عنفا رهيبا ومتواصلا حتى بعد أن يرحل الاستبداد والقهر!!
أتوقع إمكانية انفجارات يختلط فيها الرعاع بالغاضبين، واللصوص بالمحرومين، وما حصل في المحلة هو "بروفة" لهذا، وإذا كان الأمن قد سيطر وقمع فحتى متى سيمكنه أن يفعل، والعشوائية مستمرة في كل الأطراف، والغضب والغليان وغياب المعالجات!!
عندما تتم ملاحقة الإخوان، وتدمير الأحزاب الواحد تلو الآخر، والتنكيل بأية شخصية يجتمع حولها الناس، ماذا يبقى غير الفوضى والعشوائية والعنف؟!
هشاشة التكوين العقلي، وغياب أية رائحة لتعليمٍ معقول، أو تربية أو تأسيس لعقلانية الحد الأدنى، أو الرشد في أبسط صوره ودرجاته!!
غياب التأديب والتهذيب، وأصول الاحترام والتعامل بين الناس، وتغطية كل هذا بتدينٍ هزيل ملفق سطحي وتسطيحي، ساكن ومسكِّن، وتسكيني لا ينفذ للعلل الحقيقية، ولا يتتبع الأوجاع، وأمهات القيح، ومصادر التلوث والجراثيم في الجسد المريض للفرد والمجتمع.
هذه الحالة المزمنة ماذا يمكن أن تنتج غير عشوائية وعشوائيين في الفكر والسلوك، والفن والوعظ، وحتى الثورة والغضب كما في السياسة وإدارة شئون البلاد والعباد؟!
ولاة الأمر دون مستوى الحد الأدنى من التكوين المؤهل لولاية الأمر، وإدارة اليوم والليلة، والكفاءات التي تستطيع ذلك تهرب أو تنسحب أو تحتجب!!
ولا يبقى إلا الشهداء والخونة، وكلاهما لا يصلح لبناء أمة، أو إدارتها وحل مشكلات مزمنة تواجهها!!
الإضراب حق، وأحيانا يصبح واجبا من واجبات الإصلاح والتغيير، ولكنني أزعم أننا محتاجين إلى أشياء سابقة على خطوات الإصلاح، وإننا ببساطة مفتقدين لأساسيات البنية التحتية لأمة واحدة لديها الحد الأدنى من الانسجام الوطني، أو التضامن الجماعي والاجتماعي، أو مشروع بناء وطن، أو إنتاج حداثة حقيقية أو نهضة جادة!!
وأية محاولة للإصلاح من أعلى ستظل مسكونة بأمراض الخلل في البنية التحتية الممزقة إلى طوائف، والمريضة بعلل العشوائية والتعصب والغضب، والغضب العارم، ونزعات تدمير الذات والآخرين!!
القدور التي تغرف منها مغارف الإصلاح مملوءة بالصديد واللحم الممزق لأمة مشردة تائهة تترنح على غير هدى، وبدون خطة!!
أمة بلا مأوى ولا دعم ولا سند، أمة مبددة ومهددة ومضغوطة، ويمكن أن تقوم القيامة في أية لحظة فنرى كتلا من البشر في الشوارع تضرب وتحرق، ولا يمكن وقفها، ولا أستبعد في مرحلة من المراحل فوضى على غرار العراق، والسلاح موجود، والأمريكان على الأبواب، والمرضى بالاندفاع والحماس الأخرق من هذا الطرف أو ذاك، العشوائيُّون موجودون بوفرة، وكذلك السلاح والأسباب والخلفيات والأخطاء التاريخية، ومناخ الفتن، وغياب الرشد، والرغبة العارمة في الانفجار كمدا لا المعالجة والبناء!!
سيفاجأ الجميع ويتساءلون: من هؤلاء الذين في الشوارع؟! وسيتحسرون: من أين يأتي كل هذا العنف والتخريب؟!! ولا يدرون أنهم هم كانوا غافلين ومقدمات هذا وأسبابه تتراكم دون أن يدركوا أو يلاحظوا؟! وسيتغرب المحللون والصحافيون والجهابذة وما أكثرهم في حياتنا: وسيكتبون مندهشين، ولن نعدم البعض ممن يتحدثون عن مؤامرة خارجية، ولن يفيد هذا كله، وهو أصلا لا يفيد، وإن كنا نتداوله، لكنه سيسقط تماما وإجمالا ساعة الحقيقة والمواجهة عندما تقوم القيامة!!
ملايين التصرفات الصغيرة من صغار، والكبيرة من الكبار، ملايين الأخطاء والتصريحات والخرافات والاستهبالات، ملايين الكلمات، والإشارات والرموز، وترك الأمور على ما هي عليه، وانعدام التوجيه السليم أو الإرشاد، أو الحزم في معالجة آثار هذا كله، تراكمات تهاون وتقصير واستعباط أطراف فاعلة ومتفاعلة، هذا كله يتجمع بسرعة وسينفجر إما مرة واحدة أو على دفعات، وما زال إعلام السلطة يكذب داعرا، وما يزال غيره يشتمه ويصرخ منتقدا أداء ولاة الأمر فيزداد الغضب، ويستمر غياب المعالجات، وكأن الصراخ صار هو علاج الأمراض التي نعاني منها!!
النخبة في مصر منهكة وممزقة، وعقل الأمة ممزق، وروحها ممزقة، والأمة نفسها مفككة ومنهارة وممزقة، ولا ينفي ذلك أن بعض عناصر السلامة ما تزال موجودة، وإن كانت مفرقة!!
لقد قلت منذ سنوات أن مصر مريضةٌ جدا يا ناس وتحتاج إلى "كونسلتو" حكماء عاجل للعلاج الذي ينبغي أن يبدأ فوراً لأنه سيطول، ولكن يبدو أن ما وصل إليه البعض أن يعالجوا مصر..... بالصراخ!!
واقرأ أيضًا:
على باب الله: الطريق الرابع ـ تأملات مسافر2/ على باب الله: التفكيك والتفكك