عقب تخرجي من الجامعة عملت لمدة شهر في إحدى قرى الساحل الشمالي الجاري إنشاؤها، كان بالنسبة لي عملا مفيد حقا فقد كان الموقع يضم مائة فيلا وعشرين عمارة ومسرح وسينما ومنطقة ملاعب... خبرة كبيرة خاصة لحديثي التخرج.
قد تدهشون لماذا يوافق صاحب شركة على أن يقوم بتعيين مهندسة حديثة التخرج في مثل هذا المشروع، ببساطة لأن جهة الإشراف تشترط عليه أن يعمل في المشروع عدد معين من المهندسين فهل يجد فرصة أفضل من مهندسة صغيرة عديمة الخبرة تعمل على بعد خمسة وثمانين كيلو مترا من محافظتها وتتقاضى أجرا زهيدا؟؟
لم أكن أحسبها كذلك فالخبرة التي يقدمها لي العمل في هذا المشروع لا تعوض ويكفيني هذا، غير أن العمل هناك مرهق وشاق جدا يبدأ من السادسة ونصف صباحا حيث تأتى سيارة العمل لتقلني إلى الموقع.... المسافة إلى هناك نقطعها في حوالي ساعة وربع..... مسموح أن نشرب الشاي ونفطر عقب وصولنا مباشرة ثم نذهب إلى موقع العمل في الثامنة تماما.
غير مسموح بترك العمل حتى صلاة الظهر، وكل هذه الفترة أقضيها واقفة على قدمي أو متنقلة بين أجزاء الموقع المترامية... حتى لقد فقدت من وزنى خمسة عشر كيلو في هذا الشهر الذي عملته، كنت أتذكر كلمات دكتور مصطفى محمود عن مهنة الطب كان يقول: أن المجرمين الذين يراد تهذيبهم يمكن الحكم عليهم بسنتين طب مع الشغل والنفاذ... كنت أقول لنفسي سنتين مهندس مدني في موقع مع الشغل والنفاذ هي الجحيم بعينه، ما بالك في التعامل مع العمال؟؟
وأنا لا أقصد أصحاب المهنة فالأسطى الحداد أو النجار تجده رجل في قمة التهذيب يحترمك ويعاملك كابن أو ابنة له، حتى لقد قام النجار المسلح الذي أعمل معه بعمل كرسي لي بمظلة حتى أستريح، وحين شكرته بحرارة على ذلك قال لي أنت مثل ابنتي، ولكن أنا أتحدث عن فئة ابتلاني بها الله فمهنة المعمار هي في مصر مهنة من لا مهنة له، فكل عاطل تجده يقول سأذهب لأعمل في الفاعل وهؤلاء نرى منهم الأمرين خصوصا في بداية العمل لمن لا يجيد التعامل معهم فهناك قصور شديد في دراسة المواد الإنسانية في كليات الهندسة فنحن لا ندرس علم النفس على الإطلاق... ورأيي أنه يجب إدخال هذه العلوم كيف نتعامل مع رؤسائنا ومرؤوسينا والعمال اللطاف الذين يسعدون بتدبير المقالب لنا، فكم كنت أصعد فوق سفالة غير مؤمنة وطبعا حتى أبين لهم أنني لا أخاف المرتفعات فأنا أصعد بكل ثقة وأنا أتمتم بالشهادتين في سري ويا سلام لو سقطت من فوق السقالة فهذه هي قمة السعادة والأجمل لو صرخت بالصوت الحياني.
أذكر أن أحد زملائنا أتاه أحد العمال قائلا: بشمهندس عايزين شرب (والشرب هو المنسوب بلغة العمال، فعليه أن يستخدم ميزان الماء أو التودليت أو أي ما كان لوضع منسوب للعامل حتى يبدأ العمل)، وكان زملائنا الأكبر ينصحوننا دائما ألا نظهر جهلنا بأي شيء أمام العامل وأن ندعي معرفة ما يطلب ولو مؤقتا، فطبعا زميلنا سأله ألا يوجد بالمخزن شرب، فقال له لا نريد إذن صرف، وطبعا كانت نكتة في الموقع كله.......... وللنوادر بقية.
واقرأ أيضًا:
حدث في السادس من أبريل / النداهة / نوفمبر العذب