كانت تمر بطيئة تلك اللحظات الثقيلة وأنا في طابور طويل مشلول أنتظر دوري ليقوم ضابط الجوازات بوضع خاتم المغادرة على جواز سفري، وأنا سأترك هواء مصر المترب الخانق فقط لمدة 48 ساعة لأسجل حلقة لقناة العالم الفضائية عن فشل الزواج...... يبدو أن هذا الضابط موسوس، فهو بطيء بشكل مستفز.
وبينما أنا واقف في الطابور الواقع أقصى اليمين، رأيت أحد المغادرين يمر دون الوقوف في أي طابور من مَمَرٍّ جانبي كتب عليه أنه خاص بموظفي المطار، وقد وقف ضابط وشرطي عند ذلك الممر وبسرعة ختم الضابط جوار سفر ذلك المسافر وسمعته يقول: "مع ألف سلامة يا دكتر".... تساءلت بيني وبين نفسي هل أنا مخطئ أو مقصر في حق نفسي؟؟
لكم سمعت من أناس أتعامل معهم خلال سنوات: "أنا أشتغل في المطار، أي خدمة يا دكتور"، ودائما كنت أرد: شكراً إن شاء الله سوف أتصل بك... لكنني أبدا لم أفعل، يبدو أنني غاوي شعب كما كانت ابنة ابن عبد الله تصفه... ولا أدري أصحيحة تصرفاتي هذه؟؟!!
ضحكت ضحكة مرة بداخلي... وأنا أتذكر ما حدث في مطار دبي حيث كنا أكثر من ثلاثين طابورا ليس فيهم واحد مشلول وأن أحد ضباط الجوازات كان يتحرك أفقياً جيئة وذهاباً يراقب الطوابير لا ليخلص أصحاب الوساطة وإنما ليلتقط مسناً أو امرأة حامل بين الواقفين في الطابور فيخلص أوراقهم، أو ليأخذ أيَّ مسافر تظهر مشكلة في أوراقة ليحول دون تعطل أي من الطوابير فينهي له إجراءاته دون أن يعطل غيره............. هكذا كان الحال بدبي.
أما في مصر.... فإن ضابط يقف لا يسعف وإنما ليخلص أمور أصحاب الجاه وأصحاب الوساطة.... يا له من فرق مؤلم بين شعب وشعب.... فهل الصحيح في بلد كهذا أن تستغل وضعك أو وظيفتك؟!! لا أدري.... لكنني بالفعل مكلوم. لم يبقَ لدي من وقت بعدما أنهى موظف الجوازات عمله ووضع الخاتم المقدس على جوازي.... فقد كان موعد الإقلاع بعد ربع ساعة فقط.......
وفي الطائرة ونحن ما نزال على الأرض نادى المضيف... هل من طبيب؟ قلت نعم.... فقال لي معنا سيدة ارتفع ضغطها فجأة على ما يبدو، ونحتاج مساعدتك. فقمت وعرفت أنها سيدة لبنانية في الخمسينات من العمر.... أوصلها زوجها إلى المطار واطمأن إلى أنها أصبحت على ذمة الطائرة وتركها بعد ذلك..... لكنها الآن ارتفع ضغط دمها إلى 180-110 وهو بالطبع ارتفاع مفاجئ، وسألتها إذا ما كانت تتناول عقّارا للضغط فقالت لا، هذه أول مرة يا دكتور..... فسألت المضيف ماذا لديكم هنا من أدوية، فقال لا ليس لدينا..... وما دام الأمر كذلك فان عليها إلا تسافر معنا وسيقومون في المطار بعلاجها على أن تسافر إلى بيروت في الغد. وبالفعل أقنعوا تلك السيدة بأن تترك الطائرة وودعتنا داعية الله لنا بسلامة الوصول.......
وحين عدت إلى مقعدي سألتني الجالسة بجواري عن أي تخصص في الطب يكون تخصصي، فقلت لها أنا طبيب نفساني.... فقالت وما علاقة الطب النفساني بضغط الدم؟ قلت لها الطبيب النفساني هو طبيب وجراح قبل أن يتخصص في الطب النفسي، وكانت المعلومة جديدة عليها.... هي لبنانية متزوجة من مصري منذ شهور وقالت: أنا احتاج طبيب نفسي لأن لدي رعبا من الحمل، فأعطيتها بطاقة التعريف التي أحملها.
أخيرا.... هبطت الطائرة في مطار بيروت، واسترجعت شجون آخر رحلة لي إلى لبنان عقب هزيمة إسرائيل الحقيقية الأولى على يد العرب حينها كان الدمار كبيراً في بيروت خاصة في الضاحية الجنوبية، وسألت من كان بجواري ونحن نستعد للخروج من الطائرة... ترى ما أخبار الضاحية هل أزيلت أثار العدوان؟ فقال أغلب البنايات أعيد بناؤها لكن ليس كلها بعد.... ولم أفق من شجوني إلا وأنا أخرج من المطار لأجد مندوب قناة العالم الفضائية في انتظاري حاملا لوحة كتب عليها د. وائل إبراهيم "أبو هندي".... وخرجت معه....
وفي السيارة فاجأني السائق بسؤاله: في مصر عندكم شيء غريب ما هو موجود في أي بلد بالعالم، قلت له عندنا أشياء كثيرة غريبة لكن ماذا تقصد تحديدا.... قال: المصري ما له كرامة بوطنه... وهذا غير موجود في أي بلد بالعالم..... لماذا؟!!
فقلت له قديماً كنت أرى أن الشعب المصري كشعب يحبون الأجنبي وهم شعب مضياف وأن هذا يجعلهم يفضلون الأجنبي على المصري.... لكنني الآن لا أستطيع أبدا أن أنفي أن المهانة التي يتعرض لها المصري في بلده لا يمكن إرجاعها إلا للشيء الغريب الذي ذكرته أنت والذي ليس له تفسير إلا الله أعلم... ولكن أنت على حق.
حين وصلت إلى الفندق SEA ROCK واستلمت غرفتي... شعرت أنني أعرف هذا الفندق من قبل... ولما لم أكن أذكر أنني أعرفه فقد خطر لي أن يكون هو نفس الفندق الذي استضافتني فيه قناة المنار في سنة 2004.... وكان الخاطر ملحا بشكل جعلني أسأل موظفة الاستقبال: هل ينزل ضيوف المنار هنا؟؟ قالت نعم... قلت إذن الحمد لله..... لكن كيف لم أكن أذكر....؟؟!!!...
ويتبع >>>>>>>: لبنان الجميلة مرة أخرى 2008 (2)
واقرأ أيضاً:
الإلحاح في العرض أثره على الإنسان / بين الماشين والسيارات الماشية