كلنا يسبها حنقا أو استسهالا أو استهبالا، ربما لأنه ليس لها لسان، وليس محامون يترافعون عنها، وربما لأن السباب مقصود به شيء أو أحد آخر غير هذا الكائن أو الكيان المعنوي الذي نسميه: مصر!!
لا أدري بحق ماذا أو من نقصد حين نسب مصر التي هي في تقديري واعتباري بلد مسكين تحالف عليه كيد أعدائه، وهم كثير عددا وعدة مع جهل وتخلف وخيبة أبنائه، وتآمر بعضهم وفسادهم واستبدادهم وتبعيتهم وبيعهم لها بالرخيص لكل رائح وغادي!!
مصر على قارعة الطريق ملطشة لكل مزنوق في شتم أو مجبوب يدعي الفحولة أو صاحب قرشين يريد أن يخوض في أعراض بعض بناتها بأبخس الأثمان ليذهب مفاخرا: "ضاجعت مصرية....!!
والحصاد هو ما نرى ونسمع ونشم ونشعر ونخنق و... نسب!!
وبالمناسبة أكتب هذه السطور في قطار متأخر قيامه عن الموعد المفترض له بساعة ونصف حتى الآن!!!
بسطاء جدا... أغلب أهل بلادي، ونقول: أغلب من الغلب لا من الغلبة ولا من التغلب، ومثلهم أهلي في الأردن واليمن وفلسطين، وجرحى في العراق والجزائر والمغرب... مساكين من المحيط إلى الخليج، وفي الخليج مساكين من نوع مختلف، وبسطاء أغلب من الغلب أيضا، وإن كانوا يرتدون العباءات المطرزة، وصفائح الذهب، وقراريط الألماس!!
أوطاننا صارت خانقة، وصار أسهل شيء على القاصي والداني، والتافه ابن التافه، والذين ليس عندهم سوى الخواء مثل فقاقيع الصابون اللامعة الفارغة الهشة، صار أسهل شيء أن تبصق على هكذا أوطان، ثم تتمطع كالبعير مسبلا عينيك، أو مثل المخدور متطلعا إلى حيث النور، أو ما تحسبه النور في باريس أو نيويورك أو سيول.
زجرت صديقي بقسوة حين وجدته يسب وطنه، وقلت له: دع هذا الإسفاف لغيرنا، نحن معالجون يا عزيزي لا أرباب سباب، نحن أطباء نفس وروح وبصيرة، لا ذباب يلتمس القاذورات، ويبتهج بالأوساخ، ويبحث عن ويتعاطى القمامة!!
نحن من ينبغي ألا يشمئز من رائحة أو منظر قيح الحروق!!
أسهل شيء أن تزيح غضبك المكتوم المكبوت فتسب وطنك أو تشتم حكومة فاسدة تابعة مستبدة تحكم وتتحكم بالقهر أو برشوة الشعب ليسكت!!
والأصعب أن تكف عن هذه المراهقة، وذلك العبث الطفولي، وذلك التنفيس المؤقت، وتفكر في أن تتغير أو تغير، ولو شيئا بسيطا من عيوبك، أو مما حولك!! صعب طبعا أن تصبر أو تتفهم وأنت ترى وقتك يضيع، وربما عمرك يمكن أن تفقده بسبب إهمال أو تأخير أو تهاون هو خبزنا اليومي في أوطاننا!!
"قطاري أقلع بعد ساعتين تأخير!"
صعب أن ترضى بالضيم أو بالذل أو بالإهانة اليومية المعتمدة وغير المعتمدة التي يتعرض لها كل مواطن شاءت له أقداره أن يولد عربيا!!
ومستحيل ألا تتألم وأنت لا تجد لك مكانا في مكانك، أو تفتقد الوطن في وطنك، أو تلهث وراء تأشيرة هروب، أو أوراق هجرة لتصبح مجرد إنسان... مواطن!!
لا أنتظر ولا أتوقع ولا أتصور ولا أطالب بهكذا صبر ولا رضا ولا سكون، لكنني أدعو نفسي لاكتشاف قدر مشاركتي بتقصيري أو مساهمتي في صناعة أو بناء هذه المأساة التي نعيشها، وأحاول تحديد موقعي ودوري في خريطة الأخطاء والأمراض، ومن ثم في منظومة العلاج والشفاء، وأرى هذا واجبا على كل من يدعي أو يزعم أنه إنسان بحق، وليس مجرد بعير يبصق ويتمطع ويسب!!
"حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا"
تجدها منقوشة على الجدران، أو مكتوبة بالألوان مثل آيات القرآن، فمن منا يحاسب نفسه، وعن ماذا؟!
من منا يحاسب نفسه عن أدائه لعمله بإتقان في خدمة غيره، أو تبسمه في وجه أهله، أو احترامه للبسطاء من حوله، أو تربيته لأولاده أو غير ذلك؟!
كنت أشاهد نشرة الأخبار ظهيرة اليوم: انفجار بجوار مسجد في صعدة، أزمة لبنان ما زالت معقدة، العراق ينزف، وفلسطين كما هي، ومصر تتأهب لإضراب عام، وأزمة الطعام، وعمال اليومية في الأردن!!
أفلح الكيد وأثمر الإهمال ونحصد ضلال وتخبط الأنعام التي هي نحن، ونحن نرتخي ونبصق ونسب!!
كيد الأعداء، وخيانة وفساد الحكام، وخيانة الرعية الغارقة في التخلف والكذب والنفاق والسباب، المستسلمة لسب الأوطان، وشتيمة الحاكمين ثم ترتخي وتتمطع!!
هذه حالتنا تكرسها أنماط تعليم... الجهل أرحم منه، وتدعمها صحف وقنوات فضائية تحسب أنها فاضلة، والعاهرة أشرف منها، ولا ينطق في شئونها بصدق لا داعية ولا أكاديمي ولا مفكر.... الأبكم أفصح منه!!
وتسألني جليستي بإلحاح: حرام عليك.... ما هو الحل؟!
ولا أجيب مباشرة لأنني أصرخ وأشرح من سنوات أن الحل هو حلول، وهو مسارات وخطوات وهو غالبا غير ما نقول ونفعل ونعتقد أننا نتحاور!!
ودرجة للحل أن نكف عن السباب وشتم الأوطان والحكام، ونقول للناس حسنا، وأن نقيم أوضاعا مختلفة في أنفسنا، ومن حولنا!!
من الحل أن نتعلم لأننا جهلاء بأنفسنا وبالعالم!!
شجاعة المصارحة جزء من الحل، وجسارة الاعتراف والاعتذار والمبادرة، وطول النفس، والصبر الفاعل الإيجابي، الصبر وأنت تحاول أن تفكر لتفهم، وتتحاور لتفهم لا لتردد، وتنفس عن غضبك المكبوت!!
كان يروي لي عن آخر أخباره مع الفتاة التي تعرف عليها مغتربة عن محافظة نشأتها في اتساع القاهرة، ولا يملك ولا تملك غير جنيهات قليلة تكفي للمعيشة اليومية بالكاد، وتقاربا ويبحثان عن مكان!!
وصلت معه إلى أنها لا مانع أن تعيش معه كصديقة، وهي رغبة صارت منتشرة لدى كثيرات بالمناسبة!!
قال لها: نتزوج أفضل، ويعني زواجا شبابيا دون الرجوع إلى أهلها الذين تركتهم أصلا!!
والحاصل أنهما حتى الآن يجوبان شوارع القاهرة، والمقاهي السهرانة فيها بحثا عن مكان يلتقيان فيه عاطفيا وحسيا مع استمرار التنقيب عن شقة إيجار يسكنان فيها معا بعد زواجهما!! وفي دورانهما هذا تتكشف أمامها خرائط أخرى لقاهرة أخرى، وكان مما قاله لي أن بعض دور السينما تسمح وتستوعب وتستقبل فتيات وشبان بوصف صالة العرض مكانا مظلما يمكن أن يسمح بالقبلات والأحضان للعاشقين، وقال لي أن الركن الأفضل والمتعارف عليه لهكذا ممارسات هو:"ع الجنب... ورا" حيث يكون الطرفان مستندين للجدار من جهتين، وبالتالي يكون الوضع مستورا نسبيا بأكثر ما يمكن، إن كان في المسألة ستر أصلا!!
قبلات وأحضان وملامسات متعجلة مختلسة في ظلام القاعة، ومن وراءهما جدار، وفي الجوار جدار!!
هذه هي فرصة الرومانسية المتاحة أمام الملايين من الشبان والفتيات في أوطان مسكينة!!
وهذه هي كل المساحة الممكنة لمواطنين هم مستقبل أوطانهم، فكيف تتوقع أن يكون المستقبل والوطن؟!
وماذا تتوقع في صدور هؤلاء تجاه أوطانهم، أو تجاه مستقبلهم من مشاعر وآمال؟!
سيقول السفهاء من الناس: هذه نماذج شاذة وقليلة، والقاعدة العريضة من الشباب بخير!!
وسيقول سفهاء آخرون: مصر صارت مليئة بالقاذورات والنفايات البشرية!!
ويمكن أو إسهال استسهال أي أسباب وتحليلات "ع السريع" لفهم هذا الذي يجري، وسينشط آخرون لمكافحة هذه الظواهر دون جسارة نقد لمجتمع بجد، أو تقديم أي خطط بديلة لتحقيق العفة المنشودة غير طول الصبر والصوم، وهو حل مؤقت، ولا يصلح لكل الناس!!
وستسأل جليستي في غيظ: وما هو الحل برأيك؟!
وسيصرخ آخرون على الفيس بوك تنفيسا عن غضب، أو بحثا عن تغيير، وستظل جرائد الأنظمة تنشر أخبارا ملفقة عن الرخاء الذي ينتظرنا على أيادي الحاكمين!!
وستتصدر الصحف الخليجية إعلانات عن مدن الرخام، وقبور الرخام اللامع في أوطان يفقد فيها الناس إنسانيتهم، وعلى الشفاه ابتسامة رضا واسترخاء، وفي العقول صراع أفكار، وأشواق تطلعات، وأماني استهلاك، وأحلام وفرة أكثر، ورفاهية أكثر، وراحة أكثر!!!
وسأظل أكتب وأصرخ وأغني وأعزف لمن يقرأ أو يريد أن ينصت فيلقي السمع، أو من كان له قلب وبصيرة!!
وسأظل أدعو أن يكف كل واحد فينا، وكل واحدة عن سب الأوطان، لأنها تحتاج إلى إنقاذ وبناء لا شتم وبصاق، عسى البعض يحصل فيها على مكان أكبر من مجرد "ع الجنب ورا".
واقرأ أيضا:
على باب الله: غواية السرد 2/5/2008/ على باب الله: المتطرف