تقول لي: لماذا كل هذا الغضب؟! هل تعارفنا بعد فوات الأوان؟!
وأقول لها: لا أقابل الناس إلا تدوينا فماذا عساي أن أكتب سوى الصراخ بأعلى صوت، والتحذير بأقوى لفظ، والمتابعة بأعلى نبرة ممكنة؟!
يكلمني في الهاتف فأقول له مقالك أعجبني، ولكن في أي شيء صرنا نتفق أصلا حتى ذهبت ترصد عدم توافقنا كمجتمع حول الموقف من الغرب، والنظرة إليه؟! فيقول: لي حسابات، وتلزمني دبلوماسية في القول والفعل، وأنت لا حسابات لك، وربما يحميك احترافك، فيسعك ما لا يسعني!!
أقول له: يا سيدي بيننا وبين العراق تلك السلطات المستبدة التي نشكو منها، ونزيح الغضب ونطلقه في وجهها، وهي تستحق هذا وأسوأ، ولكن لو رحلت ستبدأ حرب الكل ضد الكل، فلا أجدنا نتفق إلا على رفضها وكراهيتها، أما غير ذلك فنحن ممزقين تحت الرايات، وعلى أعتاب الأصنام، وفي مضارب القبائل!!
فيقول لي: نحن على مقربة خطوات... بيننا وبين وضع العراق خطوات قليلة، فأقول في نفسي: لتذهب الدبلوماسية إلى الجحيم!!
وأقابل زميلا قديما فأجده يكرر أسئلة قديمة بالية أجيب عليها بتحليلات ودفوع وحجج قوية جديدة وحادة، والنتيجة أن يراني جليسي متطرفا منفعلا، وربما يائسا محبطا!!!
والآخر على الهاتف أروي له الموقف فيقول لي: الناس لا تريد الحقائق، ولا تصغي لما يفزعها، ولو كان هو الصدق، التخدير والتخبط أو اللهو أكثر راحة، ولذيذ!!
أقول لنفسي: هل صار ارتكاب الفهم، وقول الصدق تطرفا، وتلزم مواءمات وحسابات تضيع معها الحقائق؟! هل هذه هي حسابات الإعلام والأكاديميا اليوم؟!
أين أذهب؟! هل صار أكل العيش هو الدافع والهدف، وبأي بأي حقيقة؟!
ماذا أفعل؟! ومع من يمكن أن أتكلم وأتحاور؟!
لا حسابات ولا مؤسسات ولا انتماءات ولا قبائل ولا أصنام، مثل الأشباح في دنيا الناس، في عالم الموت أعيش إذن؟!!
كأنني موجود وغير موجود، مثل القنوات المشفرة، فهل كان ينبغي أن أبتاع فك الشفرات من الإمارات، أم يمكن أن يلعب بعض الأصدقاء هذا الدور؟!!
متطرف أم مشفر أم غريب الأطوار؟!! متهم أم غير مرئي؟!
أما كان من الأفضل أن أصغى لنصيحة أبي الكريم الرائع، وهو يحذرني من اختيار هذا التخصص في ليلة لا تنسى؟!!
ما أشقى من يرى كل القنوات دون تشفير، وما أشقى زرق اليمام، والشاعر يقول في هكذا وضع:
الآمر بالفتوى أعور
والناطق بالفتوى أعمى
والعامل بالفتوى أحول
والحاضر مرتبكا يسأل:
بالأعين هذي يا ربي
كيف أرى درب المستقبل؟!!
لأنه حين تعتل الأبصار والبصائر يصبح العتب على النظر السليم لا المريض، إذ يصبح كلامه غريبا ومتطرفا وسط الأعور والأعمى والأحول، فما حيلتي؟! وهل تموت كلمتي لأن أحدا لا يحب الإصغاء إلى الحقيقة، أو لأن العيون والبصائر ما بين أعمى وأعور؟!
هل يموت مذهبي لأنني بلا قبيلة ولا مؤسسات ولا تلاميذ؟!
رافقت الأستاذ عادل حسين ـرحمه اللهـ في رحلة إلى الإسكندرية ذات مرة، وكان معروفا بصلابته في الحق، ومقالاته النارية في جريدة الشعب ـالمجمدة منذ سنواتـ وقد ظل على العهد به، وفيا لما يؤمن به حتى توفاه الله، وحزنت لفراقه كثيرا فقد كان نعم المعلم والصديق، ونموذجا إنسانيا رائعا على مستويات متعددة غير أنه كان مناضلا سياسيا صاحب مستوى رفيع في تكوينه الفكري، وقدرته على الحوار، ودأبه وتفرغه للقضية الوطنية، فما كان تاجرا ولا متكسبا من وراء عمله، ومرور الأيام يزيدني حبا، ويكشف لي ما غمض علي من بعض مواقفه، ومنها ما خالفته فيه في حينه خلافا صامتا أو معلنا، رحمه الله رحمة واسعة.
في القطار المتوجه إلى الإسكندرية كان مما قلته له:
منسوب إليك التطرف يا سيدي، فما قولك؟!
ابتسم، وكانت روح الدعابة عنده حاضرة، وضحكته قريبة ومحببة، وقال لي: إن كان المقصود من التطرف هنا الأخذ بالرأي المتشدد في الفقه أو الدين بشكل عام، فأنت تعلم تماما أننا في حزب العمل، وأنا شخصيا أبعد ما أكون عن هذا، بل نحن مع الوسطية والاعتدال حتى يرانا البعض من المترخصين!!
أما إن كان المقصود بالتطرف هو مواقفنا السياسية الحادة، فهل ترى موقعا أو موقفا شريفا اليوم دون أن تكون صارما حاسما حازما واضحا وحادا في رفض ما يجري من ممارسات خاطئة، وفساد، واستبداد...الخ، هل هناك غير الوضوح والصلابة والمواجهة والنقد والرفض الكامل؟!
هل هناك أنصاف حلول بقبول بعض الباطل مثلا أو الالتقاء معه في منتصف الطريق؟!
وهل يسمى موقفنا هذا تطرفا؟!!
رحمك الله يا أستاذ.
مسألة أخرى أحب أن أتطرق إليها منذ فترة، وهي أن النقد عندي ليس ولولة، ولا أشير إلى العيوب والمشكلات من باب التفصيل في نصف الكوب الفارغ، أو لأنني ـبحكم عمليـ لا أرى إلا المرضى والأمراض، ولا لأنني متشائم أو محبط أو لا أرى ما في واقعنا من عوامل الخير، وإمكانيات النهوض، ومبادرات التغيير!!
لا أقدم تقاريرَ ترصد الواقع حتى يكون مطلوبا مني التوازن بقدر ما أقوم بتشريح الأنسجة المريضة، ووضعها تحت المجهر، لنعرف جيدا طبيعة ومصادر الأوجاع والأوبئة والعلل، ونعمل جميعا على تغييرها، ونحن قادرون على ذلك في تقديري، وبمشيئة الله.
لا أحكي لمن يقرأني حكايات قبل النوم مرعبة كانت أو مقدمة لأحلام وردية، إنما أحاول وصف الداء بأعراضه ومظاهره وتجلياته ومآلاته، واستكشاف مواضع الانهيار، ومفاصل ماكينات التدمير الذاتي والخارجي الذي يتسلط علينا لنوقف جميعا هذا الانهيار والتدمير، ونتعاون فيما بيننا على نشر كلمة التنبيه والإيقاظ، والتوعية والحشد في سبيل غد أفضل نستحقه بقدر ما نعمل من أجله، لا بقدر ما ننتظر، أو نغرق في التشاؤم والسخط، أو في بلاهة الأماني الساكنة أن الغد سيكون أفضل حتما لأنه لا يوجد أسوأ مما نحن فيه، أو لأنه لا يوجد شيء يمكننا عمله، بل أقوم بالدلالة على بؤر الخلل داخليا على مستوى الفرد، وعلى مستوى العلاقات، والأفكار والممارسات لنحمل عليها حملة تقضي عليها أو توقف التدهور على الأقل!!
ومسألة أخرى هامة للغاية وهي أن أي هجوم أو نقد أو مكافحة إنما ينبغي أن تكون ضد قيم لا أشخاص ولا مؤسسات، وهذه آفة قاتلة من آفات حياتنا الشخصية والعامة!!
قيم الخير أو الشر، التقدم والتخلف تتجسد عندنا في أشخاص أو أشكال فيضيع المعنى، وتتسطح القيمة، ونكون عرضة لصدمات الحياة القاصمة حين نكتشف أن القيم أعمق وأكثر تركيبا من أن تتجلى في شخص أو شكل!!
وربما لا نكتشف هذا لغياب وعينا!!
إنما يصدمنا أن هذا الشخص أو ذلك الشكل أو تلك المؤسسة لم تكن مصدر الخير ولا منبع النور، ولا مثال الطهر، والتقدير كان خاطئا من البداية لأن الخير والنور والطهر والعدل والتغيير والإصلاح كلها قيم ومعاني وأفكار وخطط وبرامج، وليست مجرد طقوس ومظاهر، وهي بطبيعتها لا يمكن أن تنحصر أو تنحسر في فرد أو جماعة أو سلطة دولة أو هيكل منظمة مهما كانت، إنما الأفراد والجماعات والمؤسسات والحكومات والقيادات والزعامات تقترب وتبتعد عن القيم بقدر الاجتهاد مع وجود مسافة ومفارقة إنسانية تضيق أو تتسع بين المثال والتطبيق، ومن أجل ذلك فإنه لا قداسة لأحد ولا لشيء ولا شخص في دنيا الناس، وكل حروبنا ضد بعضنا البعض بوصف أن منا من يتصور في نفسه الخير متجسدا، وفي الآخرين الشر مجتمعا، هذه كلها حروب باطلة، لأننا وإياهم نحمل شرا وخيرا، وكل انتظار لحل يأتي من غيرنا ـنحن الناسـ هو من قبيل انتظار ما لا يجئ، فلا توجد شخصية ولا جهة منوط بها وصف الحلول، إنما نحن جميعا مشتركون في إنتاج الواقع بمشكلاته، ومسئولون عن إبداع وتركيب وبناء حلول لهذه المشكلات!!
يدهشني هذا التقسيم الوهمي أو توزيع الأدوار المتخيل بين ملايين تفسد حياتها، وفئة تحاول تحليل الواقع أو توصيفه أو تشخيصه صوابا أو خطأ، بعمق أو بغيره فيقال لها: صدعتم رؤوسنا.... ما الحل إذن لهذه المشكلات؟!
لعبة نفسية وذهنية سخيفة ومستمرة، والأدهى أن الأغلب ممن يصفون المشكلات، ويحاولون تشريحها، والبحث في جذورها وأعراضها يستجيبون لهذا العبث، ويبدءون في الجهبذة بوصف "الحلول"!!!
على كل حال أنا لست من هؤلاء الجهابذة، ولا أزعم أن ما أعرض من سبل للتعامل مع الواقع هي بمثابة "حلول" كاملة أو كافية لمشكلاته، أو علاجا لأمراضه، إنما أحاول دائما إثارة التفكير السليم، والحوار الهادئ الدائم داخل كل إنسان وبينه وبين غيره، وكذلك رفع مستوى النقاش بوضع أجندة موضوعات جديدة ومختلفة، ربما.
إذن لا القيم السلبية ولا الإيجابية تجسدها شخصية ولا مؤسسة حكومية ولا أهلية، ولا حلول تنتجها نخبة أو قيادة ملهمة ننتظر إبداعها ليخبرنا أين نسير!!
أزعم أن هذه كلها بديهيات ولو غابت، ولو عد الناس ذكرها تطرفا!!
*اقرأ أيضا:
على باب الله: على الجنب... ورا/ على باب الله: الإنسان أولا ودائما