في سبيل التغيير، وعلى طريق البناء تبدو المهمة الأعلى، والخطوة الأهم، والعقبة الأصعب متمثلة في الإنسان ذلك الذي بيده مفاتيح التغيير، وإطلاق المبادرات كما إفشال الجهود!!
ولدينا علاقة ملتبسة وغريبة في فهمنا وممارستنا المعاصرة عن الإنسان والقدر، فنحن غالبا ننحاز لتفسير كل نجاح أو فشل، وكأنه مجرد ترتيب قدري، والإنسان فيه مجرد متلقي للنتائج الإلهية فيصبر أو يشكر!!
الإنسان لدينا إذن ليس مهما، ولا يلزمنا وضعه تحت المجهر، ولا حساب عليه إلا في الآخرة، لأن الدنيا كلها تدور بأمر الله، ولا وجود للإنسان إلا بوصفه مجرد أداة!! لا شيء عليه!! لا مسئولية ولا حساب!!
تجريد الإنسان من كل إرادة هو ببساطة نزع للمسئولية عنه، وحجب للاختيار، ومصادرة لمشكل الحرية من أصوله وجذوره أساسا، فإذا كانت الأمور تجري خارج إرادة الإنسان فلماذا نتعب أنفسنا أصلا في بناء هذه الإرادة، أو تصحيح دوافعنا أو توضيح أهدافها أو شحذها وتقويتها؟! لماذا يتغير الإنسان طالما هو ليس الفاعل؟!
ثم ما هي أهمية الحرية؟! أي أن يختار الإنسان؟!
وما قيمة الاختيار إذا كان لا يؤثر، ولن يؤثر في التحليل الأخير شيئا!!
لأن كل شيء من الله وإلى الله، جاءت الأشياء والدنيا كلها منه، وإليه تعود!!!! ولا وجود للإنسان وفعله!!
ولا أمل لنا في خطوة واحدة نتحركها إلى الأمام ما لم نفهم وجه الخطورة في هذا الالتباس، فضلا عن أن نحله فنكون عندها مؤهلين للإنسانية وشرفها، قادرين على الانطلاق بمسئولية وجدية نحو التغيير والتطوير.
إن إرادة الله سبحانه ومعرفته إنما هي كلية شاملة تحيط بكل شيء، وبكل فعل، ولكن هذا شأنه سبحانه، ونحن نؤمن بقدرته، وإحاطته التي وسعت كل شيء علما.
ونحن أيضا نريد ونعرف، ونستطيع ونتحرك وننجز، وهذه الإرادة والمعرفة والاستطاعة والقدرة على التحريك والإنجاز كلها قابلة للتطوير إلى حدود عالية جدا، لم نبلغها كمسلمين رغم أننا مأمورون ومؤمنون بخلافة الله على الأرض!! وبالتالي علينا مسئولية ولنا حرية!!
ولا أدري كيف نمارس الخلافة عن الله القادر، ونحن عاجزين؟!
وكيف نقوم بمهام الاستخلاف، ونحن فاشلين ومتخلفين؟!!
وكيف نعمر الأرض تنفيذا لأوامره جل وعلا، ونحن تنتظره سبحانه ليفعل لنا وبنا؟!! إذا لم تكن لنا إرادة أو قدرة فلا موضوع إذن!!
وما لم تتحرر إرادة الإنسان المسلم من وهم التداخل أو الالتباس بينه وبين مولاه سبحانه، فيعرف أنه مأمور وقادر، مسئول وحر، يختار ويفشل، وينجح وينجز طبقا لقوانين وسنن يمكن فهمها، واكتشافها، والعمل بها، وليس في الأمر سحر ولا سر!! ما لم يعرف أنه مسئول عن إدراكه وعن فعله وعن اختياره وقراراته، ما لم يواجه الإنسان المسلم المعاصر نفسه، ويقطع تماما ما بينه وبين الركون المخادع أو المخدوع، أو المراوغ الكسول، المعتمد على حقيقة أن الله قادر وفاعل وعالم ومحيط مكملا عليها شيئا آخر، فبدلا من واقعه اليوم في الاستقالة من معالجة شئون حياته ومسئولياتها، ينطلق ليستعين بقدرة الله وسننه ليتحرك ويسبق!!
لم تبدأ أوروبا نهضتها إلا بقطيعة مع الدين لأنه كان عندهم يعني شيئا مثل الذي نعيشه الآن للأسف، وتعالوا نتذكر حالهم: كان لديهم كسل عقلي وبحثي رهيب، مما جعل الحضارة إسلامية لقرون!! كانت لديهم تحالفات ظاهرة وباطنة بين رجال الدين والسلاطين بحيث يتقاسم الطرفان السلطة والثروة، أحد الطرفين كان ممسكا بصكوك الغفران يحلل ويحرم، ويطرد من يسميهم "المعترضين" أو"المهرطقين" من رحمة الله بأمر من الكنيسة!!
والطرف الثاني كان يملك السيف والذهب، ولا تسأل عن الحرية، ولا تسأل عن المعرفة، ولا تسأل عن الحقوق ولا البشر!! وحين قامت الثورة الفرنسية فلا عجب أن يكون من شعاراتها: "اشنقوا آخر أمير بأمعاء آخر قسيس"!!
وكانت العلمانية قطيعتهم مع فكر الخرافة الذي يروجه الكهان، وفكر التسلط والقهر الذي يمارسه الأمراء والنبلاء والملوك مثل البلطجية، وتخلصت أوربا من هؤلاء جميعا بضربة واحدة وإن استغرقت بعض الوقت والجهد والتضحيات طبعا!!
وفي ظل تلك الأوضاع البائدة الظالمة كان الإنسان مضطهدا ومهزوزا ومهزوما، بينما كانت الأوضاع أفضل في دائرة الحضارة العربية الإسلامية، ثم انقلبت الآية فإذا بنا نعيش في عصور الظلام رهينة للكهان والسلاطين يروج بيننا تطبيق للدين تتخلف معه أبحاث العلم، وممارسات الحرية، وتتسلط فيه على الرقاب سلطات وبلطجيات وسخائم حكومات فاسدة فاشلة، ومدارس ومناهج تعليمية متأخرة، وأفكار تجعل مسلم اليوم أسير خرافة كما كان الإنسان الغربي في عصور الظلام!!! فأصبحنا مجتمعات بلا هوية ولا نظام ثقافة ولا معالم!!
والنتيجة تفريخ بشر ليسوا ببشر: نفوس مريضة، وعقول واهية، وقدرات متآكلة، ومعارف منهارة، ونوعية رديئة بالجملة، هشة في تكوينها، وبائسة في حالها ومآلها!!
وما لم ننجز مهمة تحرر الإنسان وبنائه فلا أمل في أغلب ما يلمع أمامنا، ونظنه ذهبا!!! ولا مشرب لعطشى يجرون وراء سراب!!
نحن في أمس الحاجة إلى قطعية كاملة ونهائية مع التصور السقيم السائد للدين لأنه صار علة مستفحلة، وورما خبيث يدمر عقولنا ومستقبلنا، ويضرب بنموه في كل أعضاء الجسد وأنسجته!! وتلك معركتنا الأهم: نكون أو لا نكون!!
ولن يتحرر الإنسان ما دام غارقا في أوهامه وأمانيه عن أقدار ستغير أوضاعه وأحواله وتعالج ما أفسده هو أو غيره بمجرد أن يرفع يده بالدعاء، ويقول يا الله!! تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، إنما المؤمن الحق، والإيمان الحق أن نهيئ التربة، ونحسن الشتل والغرس والري والسماد والرعاية، ثم نقول: يا الله!!
هذا الإنسان المتآكل المتخبط بسبب عقيدته الفاسدة تلك، وتكوينه الأخلاقي الضعيف، والثقافي الأضعف، هذا الجاهل بدينه وبربه وبالعالم، هذا الخفيف في ميزان الخلق ورب الخلق، هذا العالة على أسرته ومجتمعه ودولته، غائب العقل، مضطرب المشاعر، مختل التصرفات، خارجا عن المنطق ومقتضياته، والعلم ومفرداته، والقانون روحا ونصا، المستمتع بالعشوائية، والظلم ظالما كان أو مظلوما الباحث عن سر شقائه، وهو الغباء والجهل!!
هذا الشيء ـولا أقول الإنسانـ لن يخدع الله ولا التاريخ ولا سنن الكون، وهو يحاول تغطية هذه الفتوق أو الشقوق أو الشروخ أو العورات أو النواقص بركعات ينفرها، أو لحية يطلقها، أو أذكار يتلوها، وقلبه لا يتألم لبؤس حاله، وخطورة حالته، بالمعنى الذي حاولت تصويره توا.
هذا الشيء هو ذاته فينا كلنا بدرجات وأشكال وألوان، وهو المطلوب تغييره وإصلاحه وعلاجه، بعد أن نعترف به ونواجهه.
لا أمل لنا في مستقبل دون إيمان سليم، ولا يستقيم لنا إيمان ويقين نحتاجه إلا بتلك القطيعة مع إيمان مغشوش، ويقين خادع مخادع كاذب، يقين العميان لا المبصرين، وعقلية كعقلية الأطفال والصبيان، بل البلهاء البدائيين!! ومن هؤلاء وأولئك من يعي ويفهم!
لا نجاة لنا إلا بإحياء عقولنا وتفكرنا وتدبرنا كما أمرنا الله سبحانه، ويومها سيعود كل شيء وكل شخص إلى حجمه الحقيقي، وستنهدم الأصنام في القلوب والعقول، ويمكن ساعتها أن نبدأ في التعليم وسلوك مسلك البشر!!
إن هذا التصور الفاسد للدين قد أقام أوضاعا اجتماعية، وأنماطا ذهنية وثقافية وسياسية ونفسية يستحيل معها التقدم، وصار التعايش معها ضربا من تضييع الوقت وتبديد الطاقة!! وقد حاول بعض أسلافنا التعامل مع هذه المعضلات بتنحية الدين أو تهميشه كلية، وكان طبيعيا أن يفشلوا في ثقافة روحها الدين: هو أيقظها من سباتها، وهو يحييها، ومحاربته أو الإلتفاف عليه أو محاولة تجاوزه تميتها أو تجعلها بلا روح!!
إذن أتكلم عن جراحة ميكروسكوبية لا ضربة من بلطة جزار أرعن، جراحة دقيقة تستأصل الخبيث بهدوء ودقة ودأب وجهد على مدى زماني معقول، فلا أزرار نضغطها فنتغير من حال إلى حال!!
هذا الإنسان المشوش الجبان المنافق المتخبط الذي يضع أقنعة وقشورا صلبة قاسية يحمي بها رخاوة أنسجته وخواء تكوينه، والذي يندمج في القطيع ناشدا الدفء والأنس هاربا من الوحدة والصقيع والرفض، هذا المسكين الذي يكذب ليعيش، ويهجم على الآخرين ليصبح شيئا مذكورا، وليتخلص من غضبه ووطأة حرمانه من حقوقه بإزاحة العدوان إلى أي هدف يلوح له، مصوبا سهامه إلى أية فريسة تعدو في الأفق، طالما يستطيع النيل منها لأنه لا تحرسها مدرعات ولا قوات أمن مركزي ولا ميليشيا، فتكون فرصته في استعراض تعويضي كما يفعل تماما كل مصاب بالعنة فتكون القسوة خارج مساحة الفعل الذي يعجز عنه بديلا تعويضيا بائسا!!!
هذه الآليات الدفاعية التي نستعين بها، والألعاب والحيل النفسية التي نمارسها لا تعالج شيئا في الواقع بل تغذيه وتبقيه على حاله، ويلزم أن نفهم أنفسنا ومن حولنا، ونكشف ونكتشف مكامن الخلل والعلل ليخرج فينا الإنسان خروج الحي من الميت.
واقرأ أيضًا:
على باب الله: المتطرف/ على باب الله: الضجر