ما الذي يحضرك حين تُذكر كلمة "أحدب" أمامك؟
أنا شخصيا تحضرني رائعة فكتور هوجو "أحدب نوتردام"، ليست القصة، وإنما الفيلم والفوازير، يحضرني غور الألم على وجه "تشارلز لوتن" في الفيلم، كما أرى دموع "جورج سيدهم" في فوازير أوائل الستينات (ابيض واسود) وهو ينهنه مدندنا "يا بختك يا خشب، يا بختك يا خشب، ياريتنى كنت زيك بقلب من خشب".
كانت صورة الأحدب نفسها قد اقتحمتني حين بدأتُ كتابة هذه التعتعة عن "قفا الشعب المصري والسياسة، إذْ قفز إلىّ ابن الرومي يذكرني بتشكيل بديع، رسمه للأحدب، وكأنه يصفنا اليوم، وقد أصبح الضرب على القفا موضوعا تناقشه الصحف والمحاكم في علاقة السلطة بالناس. قلت هذه فرصتي أن أعلن للناس مدى حبي للفصحى، (بعد تعتعة الأسبوع الماضي) وهو الحب الذي جعلني أعتذر للفصحى حين اقتحمني الشعر بالعامية (ديوان سر اللعبة): فأكرر هذا المقطع باستمرار حين يُـشتبه في أمري: "...، أصل الحدوتة المرادي كان كلها حسّ، والحس طلعْ لي بالعامّي بالبلدي الحلو، والقلم استعجل، ما لحقشي يترجم لتفوته أيها همسةْ، أو لمسةْ، أو فتفوتة حس، معلشي النوبة، المرّا سماح، واهي لسه حبيبتي، حتى لو ضرّتها غازية بتدق صاجات". نعم، الفصحى ما زالت هي حبيبتي الأولى.
لا أجد تعارضا بين دفاعي عن دلالات "اللغة الشبابية" ولغة "الناس البيئة" وبين عشقي للغة العربية الفصحى، ومن ذا يستطيع ألا يعشقها وهو يرى بن الرومي يصف هذا الأحدب بكل قسوة وسخرية، حتى يزيح من أمامك صورتيْ تشالز لوتن، وجورج سيدهم معا، لكنك لا تملك إلا الإعجاب بتصوير ابن الرومي سامحه الله
لا بد من تفسير بعض ألفاظ البيت الأول مسبقا: الأخدع: أحد عرقين على جانب الرقبة، والقذال: جمّاع مؤخر الرأس فوق القفا،
يقول ابن الرومي:
قصُرَتْ أخادِعُهُ وطالَ قذالـُهُ
فكأنـّهُ متربَّصٌ أن يُصْفعا
وكأنما صُـفعَت قفاهُ مرّةً
وأحسَّ ثانيةً لها فتجمَّـعَا
هل لاحظت البيت الأخير، وكيف يمكن أن يذكرنا بما آل إليه حال شعب ظل أغلبه يصفع على قفاه من كل سلطة داخلية وخارجية سنين بلا حصر، حتى راح يستشعر في كل حركة يد أو تشويحة ذراع، أو حتى من سماع هسيس ورقة شجرة جافة، أو صوت كابح (فرملة) سيارة مسرعة، يستشعر قدوم الصفعة الثانية فيتجمع حول نفسه بأن تندفس رأسه في أعلى جذعه، ليخفى رقبته في عمق مصالحه الخاصة جدا، إن استطاع، وهو يتلفت يمينا ويسارا ينتظر الصفعة الثانية والمائة، وبلا عدد؟ (لكن يبدو أنه بدأ يتحرك مؤخرا، يا رب!).
قلت في البداية أنني كنت أنوي أن أكتب اليوم عن "القفا"، في أمثالنا العامية وعلاقته بالسياسة، فإذا بقفا أحدب ابن الرومي يتصدر خيالي فيجرني إلى هذه الفرصة لأعلن من خلالها حقيقة عشقي للفصحى الجميلة، ثم هأنذا أجد أفكاري تتنقل بعيدا عن القفا، ولكن ليست بعيدة عن السياسة، فأتساءل: هل يعرف القارئ أصل كلمة "أحدب"؟ فيحضرني بيت شعر لكعب بن زهير يقول:
كلُّ ابن أنثى وإن طالت سلامته
يوما على آلة حدباء محمول
(والآلة الحدباء هي النعش)
فيجر هذا بدوره بيتا لأبى العلاء المعرى (على ما أذكر) يقول:
ما كل نطقٍ له جوابٌ
جوابُ ما تكره السكوتُ
واعجبنْ لامرؤ ظلوم
مستيقن أنه يموتُ
فأقول للمعرى، عندك حق في العجب، لكنك أخطأت حين تصورت أن هذا الظالم، الذي قد تصل به غفلته أن يمارس ظلمه من خلال هذه الإهانات، حقيقة أو مجازا، باستباحة أقفية الناس، يمكن أن يستيقن أنه يموت أصلا.
أحاول أن أجرجر نفسي للموضوع الأصلي عن علاقة "قفا المصريين" بالسياسة فأجد التعتعة قد قاربت الانتهاء، فأكتفي بتذكرة القارئ –تمهيدا لتعتعة قادمة– بروعة الفصحى وهى تستعمل القفا مجازا ونحن نقرأ هذا الحوار بين سليمان الناجي وابنه "سماحة" في ملحمة الحرافيش (نجيب محفوظ) " ص 142"
- ماذا تعلمون عن لعنة العمر؟
فيقول سماحة
- إنه ينقلب نعمة بين أحضان الراحة
فيعقب سليمان
- ويطمع الآخرون فينا، ما أبغض "قفا الحياة"
ياه!! هل للحياة قفا ؟؟
فلماذا يا شيخنا لم تبلغ المسئولين بعض ذلك؟
الآن الشعب قد تجمع حول نفسه خشية الصفعة التالية؟
ثم: أوَ لم يبلغ هؤلاء المسئولين التعبير المجازي الآخر أن "ردّ قفا"يعني هرِم، أي بلغ من العمر عتيا، يقول شاعر آخر لا أذكر اسمه:
إن تلقَ ريبَ المنايا أو تـُرد أذى
لا أبكِ منك على دين ولا حسب
أليس لهذا أيضا علاقة بالسياسية جدا؟
نشرت في الدستور بتاريخ 23-4-2008
اقرأ أيضا:
الحلول الذاتية: نعمل إيه ؟ نعمل جمعية !! / السياسة ولغة الشارع: .. فى الهرْدَبِيزْ (3 من 3) / مؤامرة العولمة وعولمة المؤامرة