في قرية "دندنة" بـ "طوخ"، وبينما كنت في مهمة عمل صحفية ركض خلفي محمد علي عيسوي "29" عاماً حاملاً بيده أوراق، منادياً بحس منهك: "استني.. استني يا أبله متمشيش".
قبل 4 سنوات فكر محمد في السفر إلى إيطاليا أو "أطاليا" كما ينطقها أهل البلد هن، ومثلما فعل الكثير من أقرانه بدندنة ولكنه أمام توسل الأب بأن يبقى إلى جواره فهو الابن الأكبر لأسرة تتكون من 9 أخوات قرر المكوث وتقدم للحصول على قرض من الصندوق الاجتماعي بالقليوبية قدره 50 ألف جنيه لبناء مخبز عيش بلدي لدندنة التي تذهب نساؤها في الثالثة صباح كل يوم لكي "تعلّم" في طابور مخبز كفر حسن القرية الملاصقة لدندنة –أي تحجز مكان-!
حصل محمد على دبلوم الزراعة 96 وبعد تفكيره في السفر ثم تراجعه وشروعه في بناء مخبز لقريته التي تعاني أزمة الحصول على رغيف العيش ملح الناس وبسكويتهم هناك، قرر عفيفي أخوه الأصغر السفر هو الآخر إلى أطاليا ولكنه هذه المرة فعلها إلا أنه وكما تقول الحاجة والدته شاف موته في قلب البحر ورجعوه علشان يقعد جنب أخوه يشوف الحسرة اللي إحنا فيها!
أما قصة الحسرة فتعود إلى قيام محمد ببناء وتجهيز مخبز بلدي نصف آلي بالفعل شاملا التجهيزات والسيور والمعدات وقيامه بعدها بتقديم ما يلزم من مستندات للسيد المحافظ الذي قام بالتأشير عليها ولم يتبق سوي نزول المعاينة وتشغيل الفرن ولا زال محمد ينتظر من يوم 24 أبريل 2004 إلى يومنا هذا!
مؤخرا تظّلم محمد وقدم شكوى في النيابة الإدارية وجمع توقيعات 50 من ولاد دندنة وكان الرد أنه يا إما يتقدم بطلب يغير فيه طلبه من مخبز بلدي ينتج الرغيف بـ "5" قروش، إلى "الطباقي" بـ"10" قروش يا إما مفيش دقيق ومفيش شغل ومفيش فرن ومفيش عيش!
و"حالة مفيش" هذه هي الحالة التي يعانيها محمد حاليا وأسرته.. وجوم فظيع يملأ وجه الأب "علي عيسوي" والد محمد الذي حصل على قرض هو الآخر لإضافته إلى قرض محمد وبنى المخبز على قطعة من أرضه إلى جوار بيته، يستيقظ في صباح كل يوم يفتح المخبز "الوقف" ويضع أمامه كرسيه ويجلس يتناول طعامه وشرابه.. يسرح بين الحين والآخر، تنزل دموعه ولا شيء سوي ذلك!
بعد التمكن من إخراجه من حالة الوجوم والأسى خاصة أنه كان أحد موظفي البنك قد غادر لتوه منذرا عم علي لسداد المستحق من القرض، تحدث بمرارة و"بالعافية": والله يا بنتي احنا بناء على تأشيرة المحافظ بنينا الفرن وخلال 6 شهور كان كله تمام، بدل من مساحة مقرره قدرها 60 متر بس عملت أنا 120 متر، أنا كنت فرحان إن أولادي ح يقعدوا جنبي واعمل لهم مشروع وأبقي مطمن عليهم ويشتغلوا ويخدموا البلد.. دندنة يا بنتي 35 ألف نسمة بنجيب عيشنا من طوخ أو من الفرن اللي في كفر حسن واللي اتسجل غلط على أنه مخبز دندنة بتحايل من صاحبه وبرشوة بس الواحد مش عايز يتكلم، الستات متبهدلة اللي على قد حالهم بيطلعوا من غطاهم ودفاهم الساعة 3 ولا 4 الفجر علشان يروحوا يعلّموا في طابور العيش!
ولو عملته بيطلع الرغيف أبو 10 قروش محدش ح يشتري مني، الناس على قد حالها يإما ح أعمل زي بقية المخابز.. أخبز شيكارة واحدة بس وأبيع باقي الدقيق في السوق السوداء وأنا مش عايز ابتدي بالحرام يا بنتي مع أنه سهل خالص!
وأمام عينيي الأب التي لمعت فيها الدموع لم تتمالك الحاجة أم محمد هي الأخرى نفسها..: والله يا بنتي اللي ابنه مات في البحر في أطاليا حزن، واللي ابنه رجع حزن، واللي فكر في مشروع علشان يتكن في بلده ويكسب بالحلال ويخدم ناسه برضه حزن، احنا مش عارفين نعمل ايه.. محمد بقي يوميا بيرجع لي وش الفجر، وعايز يعمل وصلة دش، وبقي بيدخن كتير ودايما متعصب.. أنا مش عارفة هما عايزين يعملوا في ولادنا إيه، ده متهدد بالسجن دلوقت لأنه مشغلش الفرن ولازم يبتدي يسدد أول دفعة من القرض.. وهو ذنبه إيه؟!
في طريق العودة كان لابد من مقابلة عمدة دندنة الحاج محرز بيومي الذي عبّر عن رأيه: معنديش كلام غير أنه ده ظلم، محمد بنى الفرن والقرية محتاجة، ناقص إيه بقي؟!
وبجوار المخبز "الوقف" وبيت محمد وأسرته تطالعك أرض خضراء.. قيراطين ونصف سيضطر عم علي عيسوي بيعهم لسداد الدفعة الأولى المستحقة الدفع الآن من القرض حتى لا يسجن محمد.
"على عيني والله يا بنتي.. دي حتة الأرض اللي باقية لنا زارعينها على قدنا وبنتنفس فيها أهو نربي لنا معزة ولا اتنين، لكن أعمل إيه يا أسجن ابني يا أبيع أرضي، ومش عارف ح أبيع إيه المرات اللي جايه عشان أكمل سداد القرض، وفي كل الأحوال الفرن "وقف" مفيش دقيق.. مفيش عيش.. نار الفرن مطفيه بس مولعه جوه ف قلبي!!
في طريق العودة كان لابد أن استقل مواصلة من داخل القرية إلى موقف سيارات رمسيس.. وجدت ميكروباصات كثيرة ولكن.. ولكن صعدت إلى أحدها وجلست بجوار سيدة على مقعد لا يحتمل سوي شخصين للجلوس عليه.. وإذا بالسائق يأتي بشاب قائلا له اجلس هنا الدنيا واسعة أهي.. فوجدتني أصرخ فيه "فين الدنيا الواسعة.. عيب عليك ده انت راجل فلاح.. هيه دي أخلاق الفلاحين.. أين تريده أن يجلس ؟" وغادرت الميكروباص فورا أمام إصرار السائق أن يجلس الشاب بجوارنا حيث لا جوار أصلا!!
فضلت أن أستقل "تريسكل".. أي والله ركبت تريسكل حتى موقف سيارات رمسيس.. تذكرت كلمات كلمات عم علي "نار الفرن مطفيه بس مولعه جوه ف قلبي" ربما لأني أحسست أن النار امتدت لقلبي أنا أيضاً!
اقرأ أيضاً:
أنا مش مُزة / المسيري.. الإنسان والجنرال!