لا توجد جريمة مثل جريمة، ولا شخص مثل شخص، ولا مريض مثل مريض، لكن المشاعر الإنسانية النبيلة واحدة، والمسئولية الإنسانية عامة، لا توجد مشاعر إنسانية طبيعية يمكن أن تتعاطف مع دهس كلب في الطريق، أو سلخ فروة ثعلب بعد صيده لاستعمالها للزينة، أو غرق قطة في بئر، وفي نفس الوقت لا تهتم بسحق شعب بأكمله أو إبادة جنس برمته، أو تجويع الملايين حتى الموت للاستحواذ على الرفاهية الخصوصية واحتكار التلذذ والسيطرة.
ناتاشا كامبوش نمساوية أيضا اختطفها فولفجانج بريكوبيل وكان عمره 38 سنة وعمرها 12 سنة، وظلت حبيسة حتى هربت سنة 2006 في سن الثامنة عشر، ولم تصرح حتى الآن بأن ثمة اعتداء أو علاقة جنسية قد تمت بينهما، وحسب الـBBC (السبت 9 سبتمبر 2006) حكت عن خاطفها بلهجة هادئة خالية من الغضب أو الانتقام وكشفت أنها احتفلت معه بعيد ميلادها وبعيد الميلاد، وصرحت بأنها تعتقد أن ضميره كان يؤنبه، وهي لم تجب عن الأسئلة الحساسة والحميمة، وكل ما أشاعته وسائل الإعلام هو أن ثم احتمال لحدوث احتكاك جنسي بينهما، أما هي فقد رفضت التعقيب على ذلك في حين استبعدت الشرطة والأطباء تعرض الشابة إلى استغلال جنسي، ثم إنها حين غافلته وهربت، انتحر الرجل فوراً، ولم تذهب للمشاركة في جنازته، وإن كانت قد زارته في المشرحة وأوقدت له شمعة، فأي رابط بالله عليكم بين الجريمتين؟
لماذا ربطت صحيفة الحياة اللندنية وغيرها بينهما؟ هل تكفي الجنسية النمساوية، والمشاركة في كهف للحجز، أو أن الطبيب النفسي الذي عالج آثار الاختطاف عند كامبوش هو هو الذي يعالج الآن الآثار النفسية لأطفال الابنة إليزابيث من أبيها، وهو يبحث في مشاكل تأثر عيونهم وبشرتهم من نقص الضوء، هل يكفي أيا من هذا للربط بين الجريمتين؟ إن مجرد الإسراع بهذا الربط لهذه الأسباب السطحية يؤكد لي مرة أخرى ضرورة التحذير الشديد من التسطيح والتسرع كما ذكرت الأسبوع الماضي، وقد وصلتني ردود فعل كثيرة نبهتني إلى ضرورة فتح الملف من جديد لإعادة التأكيد على ما يلي:
أولا: أننا لا ينبغي أن نسارع بمثل هذا الربط العشوائي هكذا.
ثانيا: إنه مهما اتفق الظاهر والمعلن فإن التفاصيل ضرورية قبل أي حكم أو محاولة تفسير.
ثالثا: إن أغلب الإعلام ليس مصدرا موضوعيا للبناء عليه حكما علميا.
رابعا: علينا أن نتجنب التعميم بكل أشكاله، فندمغ حضارة بأكملها أو بلدا بذاته بصفات عامة، لمجرد أن نتلقط حادثا شاذا هنا أو جريمة بشعة هناك ولو تشابهت في الظاهر، ثم هات يا "هم" و"نحن"..الخ، هذا موقف تعصبي غبي بل إنه قد يلهينا عن النظر في أنفسنا لنكتشف جرائم مشابهة أو موازية أو ألعن هي أولى بالتصحيح.
خامسا: إن مشاعرنا الرقيقة العذبة إذْ تستفزها مثل هذه الجرائم، ولا تستثار لما هو أكثر قسوة، وأخطر أثرا على آلاف وملايين الأبرياء من الأطفال والشيوخ والعذارى والأمهات والمرضى والمعاقين، هي مشاعر ينبغي ألا نطمئن كثيرا إلى رقتها وعذوبتها، فهي مشاعر غير ناضجة، أو لعلها مشاعر مشوهة مُبَرْمَجَة مُوَجَّهة لغير صالحنا وصالح البشر، ليس معنى ذلك ألا نهتم بالأحداث الفردية لنعرف أبعادها، ولكن ليس على حساب العمى عن الجاري جماعيا. قياساً على شعر أديب أسحق
قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر
وقتل شعب كامل مسألة فيها نظر
يمكننا أن نقول
سفكُ ابنةٍ في مخبأ جريمة لا تغتفر
وسحق شعب ثائرٍ مسألة فيها نظر
وأخيرا:
فإني لم أقصد الأسبوع الماضي التهوين من دور الزميل النمساوي د."ماكس فريدريك" الذي وقف بجانب الضحية الأولى ناتاشا كامبوش يمنع عنها إيذاء الإعلام وهي تعاود حياتها في عناد شريف رائع، ثم ها هو يقف مع الثلاثة أولاد لبحث تأثير الحرمان من الضوء عليهم! أقول إني لم أقصد الاستهانة بفنه أو طبه بقدر ما حاولت أن أنبه نفسي وإياه ألا تلهينا الفروع عن الأصول، وألا تبعدنا الأحداث الفردية عن المسئولية الجماعية، فمازلت أذكر تهليل عامة الإعلام بما في ذلك الإعلام المتحيز ضدنا بعد مقتل الطفل محمد الدرة وكأنه يشاركنا آلامنا وأحزاننا في حين أنه يلهينا عن آلاف محمد الدرة الذين يقتلون كل يوم وكل لحظة، وحتى الآن في كل مكان.
من هنا نفهم معنى أن أي إيذاء لفرد بغير جريرة فهو إيذاء للناس جميعا، اقتداءً بالآية الكريمة "مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا"
نشرت في الدستور بتاريخ 14-5-2008
اقرأ أيضا:
الأحدب، والسياسة، والقـفَا، ولعنة العمر!! / مؤامرة العولمة وعولمة المؤامرة / أما لديكَ بلـْسمًا يعيدُ في أمّـتنا الرجولة؟!!