كانت ليلية جميلة ومتعة عميقة وبسيطة أمسية أن تكلمت عن الترفيه والترويج، وكنت أود أن يشاركني أحد في هذه المتعة، فالمتعة تزداد بالمشاركة!!!
وحيدا ذهبت ـكما المعتادـ لأجلس وأستمع إلى "صفوان"، وقد حاولت دعوة البعض، ودعوت والدتي فتململت، ثم طرق سمعي همسها وأنا منصرف: وربما يكون في الأمر حرمانية، فبلاش أحسن!!
بعدها بيومين في مناقشة سريعة سمعت استنكارا على تنظيم أحد الملتزمين من الأصدقاء لهكذا حفل، وربما لم يشأ المستنكر أن يصدمني بالإنكار علي لأنني حضرت مستمعا لفنان يجلس مرددا أغاني قديمة لمطرب راحل لا أحسب أن في الكلمات ولا الألحان قطرة مما يشين الأسماع أو يزري بالسامعين مثل ما نسمع هذه الأيام، ومثل ما صار الغناء أو عامة الترفيه واللهو!!
معنى هذا أن قطاعا كبيرا من الناس عندنا قد توقفوا عن تعاطي الفنون كلها الراقي والمنحط فنيا، الجيد والرديء من باب الاحتياط، وحين سألت المستنكر: ماذا تقترح على الناس من أنواع الترفيه المباح والمقبول بدلا من أغاني عبد الوهاب، سكت ثم رد: يقعدوا يحفظوا قرآن أحسن!!
ولم أكن أتصور أن حفظ القرآن قد صار يدخل في باب الترفيه!!
من باب الاحتياط تآكلت الذائقة الجمالية والفنية لدى الجموع، وبالتالي صار من الممكن أن يعد فنا أعمال سينمائيه ومسرحية ودرامية هي محض تخلف عقلي، ومما يعده أهل الفقه، أو كانوا يسمونه أنه من "خوارم المروءة"، وقد ضحكت كثيرا حين رأيت تعليقا لقارئ يجهل معنى الكلمة، أي خوارم المروءة، وهي كلمة متداولة في كتب الفقه، وبخاصة القديمة، وتعني ما لا يليق بالمرء أن يقوله أو يفعله، وقد عد بعض فقهاء الشافعية المحدثين التشخيص (التمثيل)، على سبيل المثال، من خوارم المروءة (هذا إن لم تخني الذاكرة)، وغير الشافعية قد يرون بخلاف ذلك من حيث محتوى الأدوار التي يقوم بها الممثل، فإن حصل النفع من التشخيص فلا بأس، وإن تأكد الضرر فلا ضرر ولا ضرار، ونظرة بسيطة تكشف لنا أن الكثير مما نشاهده تمثيلا أو دراما هي من السخف والبلاهة والانحطاط مما يتحقق ويتأكد معه الضرر على مروءة من يؤدي ومن يشاهد أو يستمع!!
وهذا بعض حصاد غيابنا كمجتمع وناس يحترمون أنفسهم عن هذا المجال بأسره، فصار الترفيه إسفافا وما زال بعضنا يهجر كل ما يدخل في باب الترويح "من باب الاحتياط"!!
وآخرون ربما لم يجدوا للمشاعر مكانا في واقعنا بحيث أصبح الكبش يستوي عندهم والغزال كما قال الشاعر!!
ومن طول الحرمان العاطفي، والجفاف الإنساني صاروا لا يجدون غضاضة من العيش في مدن كئيبة من القذارة والأتربة، أو كئيبة من القهر والبرودة والوحدة والكذب، أو كئيبة من الفقر في المال، والفقر في الفكر والصحة!!!
ولكي يتكيفوا مع تلك الحياة البائسة صادروا ما كان لديهم، أو ما تبقى من مشاعر وأحاسيس ومستقبلات ألم أو فرح!!!
حالة التخدير العام التي نعيشها بمخدرات من العقاقير أو مخدرات فكرية أو دينية، وحالة التخدير تعني تغييب العقل، وإلغاء الشعور!!
أليس هذا حلا ـ مرضيا ـ بديلا للتألم والشعور.. بالفقد أو باللوعة أو بالأسى على الحال العام والخاص؟!!
ملايين ألغوا المشاعر والأحاسيس، وصاروا مثل الجمادات "من باب الاحتياط" حتى لا يتألموا من ضغوط وأوجاع أيامنا وليالينا، وما أكثرها.
ولا يبتعد عن هؤلاء ـ أو تلك الحالة ـ أولئك الذين يعيشون حياتهم خيالا أو هلوسة في عوالم أخرى حين لم يجدوا مجالا أو مكانا لها ولا لمشاعرهم في أرض واقعنا، فارتحلوا إلى العوالم الافتراضية بأنواعها: الأغاني العاطفية، والأفلام الرومانسية، الروايات البوليسية أو الخرافية، أو الخزعبلات المتلونة بالدين، أو عالم الانترنت ودروبه!!
حالة من "التهييس" العام، والتهييس لمن لا يعرف هي كلمة مصرية منحوتة حديثا تعني درجة من غياب الوعي، وربما الخروج من الضجر بترفيه أو مرح أو "عمل دماغ"!!!
الوعي نفسه واليقظة والانتباه صارت مصطلحات ومعاني غير محببة ولا محبذة كثيرا إلا في الخطاب السياسي المعارض ـ ربما ـ أو في مقالات الهجوم على الفساد والغيبوبة التي نعيشها دون أن يكون لها مكان حقيقي في أرض الواقع، فلا وعي ولا انتباه ولا يقظة، ولكن "يعيش التهييس"... وتتم المصادرة أو الاستسلام لغياب أو تغييب الوعي طواعية، ومن باب الاحتياط!!!
لكن الاحتياط الأهم يحصل عندنا بالنسبة للعقل، وهو العدو الأول لحياتنا الفوضوية البائسة، وهو العدو الأول لكل الأطراف الفاعلة حاليا، فلا مكان للعقل في ممارسات الأنظمة، ولا مكان للعقل في تصرفات الشعوب التي صادرت إنسانيتها أو استسلمت لهكذا مصادرة!!
ولا مكان للعقل وسط أفهام متخلفة، وممارسات بدائية، وأراء مزرية، وتصورات مشوهة، وتصرفات خرقاء ترتدي عمامة الدين أو عباءته، أو تزعم أنها تنتسب إليه وتنطلق منه، والناس تصدقها، وقد صادرت عقولها... "من باب عقولها... "من باب الاحتياط "!!!
لا مكان للعقل وسط هكذا مناخ، والحل؟!
نصادر العقول من باب الاحتياط، كما صادرنا الأذواق، وكما صادرنا المشاعر والأحاسيس!! أية تعاسة، وأية مأساة تلك التي نعيشها؟!!
حين يتآكل الشعور بالجمال فيستوي لدينا القبيح والحسن، وعندما يغيب الشعور والإحساس فتشتكي ملايين الزوجات من يتميزون بالبرود والبرودة، وربما جفاف المشاعر فلا غزل ولا دفء ولا مداعبة، وتظن كل زوجة أنها بمفردها في هذه الشكوى رغم عموم البلوى، ورغم أن المشاعر الجميلة تتوه مبكرا، أو تتعرض للمصادرة مبكرا تحت شعارات الالتزام الديني أو الأخلاقي، أو تحت دعاوى العقلانية أو الجدية، ولا توجد لدينا تربية شعورية تسمو بالأحاسيس كما كان الشعر بفعل في نفوس أجدادنا، وكما كانت فنون اللغة والتطريز، والنقش والتلوين، والعمارة، والحكي، والفروسية، والأزياء، وغير ذلك من أنواع الثقافة والتمدن!!
تآكل كل هذا وصرنا على قارعة الطريق مثل اللقطاء ننتظر ما يرد علينا من بلاد الإفرنج يعلموننا عن الذكاء العاطفي، وتربية المشاعر والأحاسيس، وتهذيب النفوس بأنواع السماع والنشاط، وتنمية العقول والأمخاخ بالتفاعل الاجتماعي، وديناميات المشاركة المختلفة.
لقد خلقنا الله سبحانه ولدينا الاستعداد لكل شيء من خير أو شر، فماذا نفعل بأنفسنا وبأولادنا؟! ماذا نفعل بمشاعرنا وأحاسيسنا؟! ماذا نفعل بعقولنا وقدراتنا؟! في ماذا نصرف أوقاتنا وطاقاتنا؟!
ما لهونا وجدنا؟! ما ديننا أو اعتقادنا؟! ما تفكيرنا واختيارنا لأنفسنا ولمستقبلنا؟! بأيدينا نصنع بؤسنا ثم نعود ونشتكي، وسيسألني من حولي بحرقة: ما الحل يا صديق؟!
واقرأ أيضًا
على باب الله: خيانة دين/ على باب الله: لا إله إلا الله