على هامش قضية النقاش قاتل أولاده الثلاثة بالسيف
بين الحين والحين تستيقظ مصر على جريمة مفزعة لم تتعود عليها فالوداعة التي اتسم بها المصريون، حلت محلها الفظاظة والفظاعة وبشاعة الجريمة، خاصة أن القاتل هو الأب والقتلى الضحايا هم الأبناء وأداة القتل هي السيف في 2008، وأسماء الأولاد إسلام وعبد الرحمن (رمز للدين والرحمة) وياسمين (رمزاً للرومانسية والنعومة) والسيف سلاح أبيض ترعرع في الجاهلية وقتل الأولاد عامة له صفة خاصة ألا وهي أنه نوع من الانتحار يسمى بالانتحار الممتد، لأنه قتل أعز ما لديه، لم يك قتلاً صامتاً لكنه كان قتلاً دموياً فيه دماء وتقطيع، ذبح وأشلاء، فيه دراما وعنف لامحدود وطعنات وصلت إلى التسعين، هياج ومرج وهرج ونزولا للأب القاتل إلى الشارع بسيفه الملطخ بالدماء ليركب ميكروباص ولا دهشة للناس ولا عجب ثم يتمشى وسط ميدان سفينكس المزدحم حتى يصل إلى ضابط المرور ويعترف له في برود المجنون: أنا قتلت أولادي الثلاثة حتى لا يصبحوا مرضى نفسيين مثلي لا يعانون مثلي ولا تخنقهم ظروف الحياة.
ترى هل هو انبثاق جديد لحياة وموت جديدين على مصر 2008، أم أنه أمرُُ جلل يتعلق بالأسرة نواة هذا المجتمع المنخور المتهاوي.
أم أنها أسس التربية النفسية لبنة تكوين هذه الأمة، أم أنها السياسة والاقتصاد بكل ضراوتها وحساستها في بلد صار فيه الغشاش هو النجم، والمحتكر هو البطل المهيمن أم أنه – بالفعل – أمر – يتعلق بالصحة النفسية وضرورتها للحياة، والجنون المختبئ في خطورته عندما يخترق الوجود ويعلن عن نفسه في جريمة تقشعر لها الأبدان.
الجريمة لها مثيل في مصر، وفي العالم، لكن ما الذي يجعلها مختلفة ولها رائحة مصر والمصريين، أنها وقعت في العاصمة وأن أصحابها ناس عاديون، مصريون بسطاء ليسوا فقراء ولا أغنياء، (مستورين) فالقاتل يقول في التحقيق (أحب أطفالي جداً)، وحالتنا المادية مقبولة، قررت التخلص من (القوة الخارقة) التي تسكن أجسادهم، لست مريضاً نفسياً، ولم أعالج لدى طبيب نفسي.
ما يهمنا هنا في تحليلنا هذا هو (الحالة المصرية)، تعاملت الصحافة مع الحدث بشكل الخبر ونفت أنه مريض نفسي (ليس معنى أنه لم يتلق علاجا أنه ليس مريضاً) بدليل أن زوجته في اعترافها وهو التاريخ المرضي الشخصي للقاتل: كان يعمل أسبوعاً ويتوقف شهراً عن العمل أو (حسب الظروف).
عدم تحقيق الذات في وظيفة أو عمل منتظم ينزع عنه الحساسية والالتزام ويجعله هشاً أحمد كانت أحواله متغيرة، فترة يصلي بانتظام في المسجد يؤذن ويؤم المصليين، منتهى العبادة، منتهى الالتزام الديني، منتهى التقوى، ولذلك ارتبط أيضاً باقتناء السيف رمز الجسارة والقوة والتراث، ثم فترة أخرى – والكلام لزوجته- يقف على ناصية الشارع يفرض إتاوة على السائقين، ويجلس على المقاهي حتى الساعات الأولى للصباح، هناك يلقنونه علقة ساخنة ثم يعود للمنزل (منتهى الصياعة والتشرد والظلم والاستهانة)، وتتساءل الزوجة لا أدري سر هذا التقلب الذي يحدث كل صيف (إذن فهناك عامل كيمائي بخلايا المخ العصبية تضطرب فيها مواد معينة، وهي تعرف بحالة هوس الاكتئاب الدوري مع تحفظنا على التشخيص لأننا لم نفحص القاتل.
التاريخ الاجتماعي للأسرة أن الزوجة تعمل موظفة في المحكمة براتب 750 جنيه شهرياً وأنها انتقلت بحالتهم السكنية من غرفة ضيق فوق السطوح إلى غرفة.... في منزل أسرته ثم في السنوات الخمس الأخيرة بنت الزوجة غرفتين على سطوح المنزل (وأصبح منزلاً جميلاً وجاء طفلي الثالث عبد الرحمن 10 أشهر).
إذن هناك استقرار مادي اجتماعي لكن هناك ضغوط شديدة لا يمكن إنكارها في الحالة المصرية فالمناطق الشعبية كالبراجيل وأوسيم تقع على نجوم القاهرة المتلئلأة المتوهجة الغنية الفاجرة ممثلة في المهندسين. لم ينتبه أحد أن كل صيف ربما بسبب حر القاهرة الشديد وازدحامها وضغوط الامتحانات وهوس الصحافة وإحساس الناس بأنهم لا يدرون إلى أين هم متجهون يجعل (الحالة العقلية غير المشخصة قابلة للانفجار في ومضة جنون يفيق منها القاتل، فيبكي وهو يعود إلى وعيه وهو يمثل الجريمة على مسرحها، من ناحية أخرى رأى الناس دموع رجال الشرطة المتهمين دائماً بفظاظة القلب واللسان وثقل اليد والحذاء رأوهم يبكون وهم يستمعون لرواية الأم، هذه هي الحالة المصرية العاطفية جداً، المتناقضة بين عشية وضحاه، البعيدة عن مانشيتات الصحف وعن التوك شو في الفضائيات الصاخبة.
نأتي إلى تلك الضلالة المميزة (الاعتقاد الخاطئ الذي لا يقبل الشك) أن أولاده لديهم قوة خارقة (وهذا قد يفسر عدد الطعنات بـ 40 طعنة لكل ضحية) هذه القوة الخارقة لابد من التخلص منها، وهي في مرة أخرى تمثل (غزواً) وهو ما يمثل إحساساً قاسياً بعدم الأمان وفقدان الثقة الأساسية والخوف من بكره، موجود لدى معظم الناس، لكن عندما يترسخ لدى شخص لديه موجات هياج موسمية وسلوكيات متناقضة يتحول إلى رعب وكابوس إلى قتل وأشلاء ودماء، استمر الطعن ساعة ونصف (اختصرت عذابات فكر مصري مضطرب) وكانت طويلة جداً على أجساد أطفال.
في هذا الإطار لا يمكن أن ننسى ذلك الأب بمنطقة النزهة بمصر الجديدة الذي تناول السم مع بناته الثلاثة فماتوا جميعاً بعد وفاة (الابن الأخ) وفي حالة (عبد الناصر إبراهيم مؤذن ومقيم شعائر الدين دون روحانياته،، قتل 4 من بناته السبع تفاوتت أعمارهم من 3 إلى 15 سنة طعناً بالسكين تحت دعوى كراهيته للإناث، ومدرس المنيا الذي أنهى حياته وأولاده الأربعة وجلس إلى جوار جثثهم يبكي في هستيرية.
إذن فنحن أمام الأب المصري الغائب المُغيّب (هذا إذا نحيّنا مسألة المرض العقلي جانباً) والقاتل له وهو يضع أولاده على حجره، صورة في برواز توضع على الحائط، تحمل في اليد، تحفظ في المحفظة، صورة للجرائد والمجلات صورة من أجل الصورة.
هنا من الممكن أن نفهم كيف لأم إسلام وياسمين وعبد الرحمن (تلك التي كانت أماً وأباً)، تلك التي فقدت فجأة، في طرفة عين الأب المفترض وفقدت كل الأبناء، فقدت الأسرة لبنة ونواة المجتمع المصري الجديد في عصر قانون المرور الجديد، والضرائب العقارية وقانون الاحتكار العجيب.
مصر اكتئاب الوزير النزيه وتربع البلاي بوي على عرش القرارات التنفيذية على جثث أطفال البراجيل.
(نشرت بجريدة "البديل" المصرية ـ الخميس 3 يوليو 2008)
واقرأ أيضاً:
لا للاختــزال........لا للاحتــلال / على هامش كارثة قطاري قليوب / الحالة النفسي سياسية