بينما كنت أسير على الكورنيش في جدة عند نهاية شارع فلسطين... حيث نافورة ماءٍ من ماء البحر تصعد من على بعد أمتار من الشاطئ كسهمٍ ينطلق في عنان السماء حتى يصبح أعلى من معظم ما على الشاطئ من بنايات شاهقة براح..... وكنا بين صلاة المغرب والعشاء...... هناك أنسام هواءٍ طيبة والمسافة من الشاطئ إلى طريق السيارات تسمح فعلا بالتأمل والهدوء... ورؤية نافورة الماء المتصاعد لا تقوى عليه الريح إلا في ارتفاع شاهق فتراه يميل ويتناثر في سيمفونية رائعة تمنيت لو صحبتها ألوان... كم هي رائعة جدة هذه ولا ينقصني فيها إلا وجود أخي وصديقي د. مصطفى السعدني.
في هذا الجو الجميل (فقد شاء الله أن أجد في جدةَ طقسا أفضل من طقس مصر بمراحل وبالطبع الهواء أنظف لأن عادم كل شيء أقل ونظافة كل شيء معتادة.. وهي أمور لا تتوفر في مصر).. الشيء الغريب ربما أنني الوحيد الذي كان يمشي... حتى تعرضت مرارا لموقف أصحاب سيارات خاصة يقفون راجين مني أن أركب... لا نأخذ منك شيء ولكن فقط تعال نوصلك ونتعرف... مرات أجد السائق سعوديا ومرة يمنيا ومرة نيجيريا... أو كينيا مسلما والله نسيت كيني أم نيجري..... لكن منتهى جمال الخلق..
أعود إلى ما دار بخلدي وأنا في تلك الليلة الجميلة أتمشى على شاطئ جدة... ما الذي جرى؟ أنا قضيت فترة طفولتي المتأخرة ومراهقتي المبكرة والمتوسطة في السعودية بين البدو في قرية كانت تسمى المويه الجديد.. وأقراني هداهم الله من السعوديين كانوا أغلبهم فظاظا غلاظا وإما حباهم الله ذكاءٍ فطريا أو هم يكثرون من التصرفات الحمقاء... ولا داعي لتذكر سيئات في الذاكرة ارتكبوها... سامحهم الله وإني سامحتهم منذ زمن... لكن ما أراه الآن مفاجئ بكل معنى للكلمة الأولاد السعوديون المراهقون والشباب والكبار كلهم من أصلح من تصحب –فهل أنا محاط بمجموعة مخصصة للتعامل مع أستاذ جامعي في طب النفس يحترف تأمل السلوك البشري؟ بالتأكيد لا... بالتأكيد نجح الإنسان السعودي في كسر التنبؤات المتعجلة التي لم تكن ترى فيه خيرا... لا هذا لم يحدث لقد كانت الصورة مشرقة إلى حد أذهلني رغم معرفتي من قبل بأخي أ.د. طارق بن علي الحبيب... وكنت أظنه استثناءً!
فقد أسعدني حضوري للدورة التدريبية العامة عن العلاج السلوكي المعرفي في مستشفى الملك فيصل التخصصي بجدة بالتعرف على نماذج رائعة من الأطباء النفسانيين السعوديين الشبان:
رأفت محمود شقدار د. أحمد الهادي ود. سعيد عسيري... واتفقت على ضمهم لمستشاري مجانين الذي يقرأ حسب إحصاءات أليكسا Alexa في السعودية أكثر مما يقرأ في مصر، (وفعلت الشيء نفسه مع طبيبة نفسانية عمانية هي د.آمنة الشامسي ومع زميلة من الإمارات هي أ. فدوى القرشي ومع أخٍ أكبر من مصر هو د. عبد الرحمن عسل وآخر من الأردن هو د.صلاح قباني)... ولما كان احتمال إجراء أي نوع من الدعاية أو التعريف بمصر إن كان حصل فقد حصل في مصر وليس في السعودية فإن المعنى هو أن الإنسان السعودي المعاصر أيضًا يحسن البحث عن الطيب على الإنترنت أكثر من المصري المعاصر (كان الله في عونه).. وأن كثيرا من الجهد المبذول موجها للمصريين إنما يضيع سدى إذا كنا ننتظر فائدة في الدنيا!.
في الليلة الأخيرة من تواجدي بجدة وهي ليلة الأحد 29/يونيو/2008 كانت لنا سهرة في البحر الأحمر بدأناها من أبحر الجنوبية على ظهر باخرة سياحية... ثم انطلقت الباخرة في رحلة داخل خليج جميل على شاطئه ترى القصور والبيوت الفخمة.... وفيما عدا نظافة الهواء وجو التدين الشائع (وهو ما لا يتوفر في مثل هذه الظروف في مصر) تشعر كأنك في أرقى المناطق السياحية في مصر المعاصرة.. لم تكن هناك باخرة للرجال وباخرة للنساء ولكن كانت هناك صلاةُ المغرب والعشاء أداها معظم الموجودين رجالا ونساء وكانت أهمية ذلك مأخوذة في اعتبار الباخرة السياحية..... في هذه الليلة بعدما صلينا وتعشينا صعدت إلى ظهر الباخرة مع ابني د. محمود الوصيفي وجلسنا مع الأطباء النفسانيين السعوديين الثلاثة رأفت وسعيد وأحمد صاحب موقع العلاج السلوكي المعرفي العربي الأول... وطال بنا الحديث وقلت لهم أنني أرى الطبيب النفساني السعودي مؤهلا بامتياز ليكون الأقدر على ربط واقعنا في الطب النفسي بثقافتنا الإسلامية الصحيحة تأصيلها ربطا بالقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وسبب ذلك هو تعليمهم الديني فقد تلقوا تعليما دينيا متميزا (مثل ما تلقيت في المرحلة المتوسطة والثانوية من الدراسة في سبعينات القرن الماضي).. في كل مراحل تعليمهم بل قلت لولا أنني تلقيت هذا التعليم في صباي لكنت مثل معظم الأطباء النفسانيين العرب لا أحسن القراءة في التراث وهو ما يتميز به الطبيب النفساني السعودي ولعل خير مثالٍ على ما يستطيع هذا الطبيب تقديمه ما يتوالى إنتاجه من مؤلفات ومشاريع طارق الحبيب البحثية.... ومن أجمل إرهاصات تأصيل العلوم النفسية ما كنت أسمعه في تلك الجلسة من ردود وتعليقات أصحابي السعوديين الثلاثة هم فعلا على دراية بكثير من الإضاءات النفسية الاجتماعية في تراثنا فهذا أحدهم (سعيد عسيري على ما أذكر والله أعلم) يرشدني إلى كتاب ذم الهوى لابن الجوزي قائلا تجد فيه علاجا معرفيا سلوكيا تخيل لماذا؟.. للبارافيليا (اضطرابات التفضيل الجنسي)!
السعودية اليوم فعلا تجاوزت كل ما كان متوقعا من التغيير في الإنسان وتطويره والرقي به واستجاب ذلك الإنسان بل هو أيضًا فاق توقعات من أرادوا له ذلك... صدقت إذن يا ابن عبد الله وقد قلت لي يوما وأنا أظهر استغرابي من روعة وقوة ورصانة أسلوب مستشارتنا أ.صفية الجفري: "..لا يا وائل البدو الذين عشت معهم ليسوا يمثلون الإنسان السعودي ففي السعودية متميزون بشكل لا جدال فيه هم قلة فعلا وربما يبدون شواذ وسط مجتمع ليس فيه كثيرٌ من الوعي والثقافة وربما لا يوجد عندهم وسط"... إذن كيف سارت الأمور وكيف خابت النظرية التي كانت تقول بأن توفر النفط بالسعودية وما يترتب عليه من سهولة العيش متفاعلا مع ثقافة البداوة والإسلام الذي يركز على العبادات شكلا لا يمكن أن يمنح الإنسان فرصة لتطوير ذاته وبناء معرفياته -إلا إذا كان استثناءً!- هذه النظرية ظهر خطؤها بكل تأكيد... فهل أنا واهمٌ؟ وكل ما في الأمر أنني التقيت مجموعة من المتميزين؟ أم أن السعودية تمتلئ بكثيرٍ من هؤلاء فعلا كما تدل أشياء كثيرة؟ ثم ما هي العوامل التي أفشلت نظرية ربما اعتنقها كثيرٌ من العرب لفتراتٍ طويلة؟ زملاؤنا السعوديون مدعوون لإبداء الرأي في ذلك.. ونحن في الانتظار.
ويتبع >>>>>>>: الإنسان السعودي بين الأمس واليوم مشاركات
اقرأ أيضا:
التبعية الانتحارية ما بعد التبعية الإدراكية / إشراف دولي على امتحانات الثانوية العامة