عرفته في مرحلة حاسمة من حياتي... كنت قد أنهيت دراسة الطب وعلى مفترق طرق: أي تخصص أختار؟! أم أترك الطب وأتفرغ للكتابة الصحفية؟!..... كما لم تكن الإجابات التي تقدمها الحركة الإسلامية حينذاك كافية بالنسبة لي، وقد بدأ الوعي والاحتكاك يطرحان المزيد من الأسئلة عن ذاتي، وعن الإسلام، وعن العالم الذي أعيش فيه، عالم نهايات ثمانيات القرن العشرين بعد انهيار الإتحاد السوفيتي، وهو صعود حركات الإسلام السياسي في العالم العربي، وهو الصعود الذي لم يخلُ من الصدام في بعض النقاط الملتهبة كما حصل في الجزائر، ومناخ من الحرب المفتوحة تدريجيا بين السلطة في مصر، والجماعات الإسلامية المسلحة!!
كانت لحظة نشوة أمريكية، وكنت شخصيا في مرحلة قلق متسائل، وأستكمل مسيرتي في البحث عن الحقيقة والمعرفة عبر استكشاف البشر والحياة بالاحتكاك المباشر!!! وعندئذ قابلته لأول مرة حين دعوته ولم يتردد في إجابة دعوة مجموعة من الشباب والطلاب، ولم يكن فينا أحد له اسم معروف ولا منصب مرموق، مجرد مجموعة من شباب يودون الالتقاء بهذا الرجل العائد للتو من عمله الجامعي في السعودية!!
وكانت الانتفاضة الفلسطينية الأولى 1987 قد انتصبت نموذجا جديدا في الفعل والإدراك والتعامل المختلف مع إسرائيل.... الأمر الذي لاحقه المسيري بأهم كتبه على الإطلاق ـفي رأييـ وهو كتابة "الانتفاضة الفلسطينية: دراسة في الإدراك والكرامة"، وهو الكتاب الذي سأقوم بتدريسه في دوائر حركية إسلامية حينذاك ليعرف المسيري من لم يكن يسمع باسمه، ويبدأ الحركيون الشباب يتعرفون على مفكر من العيار الثقيل يطرح آراءا قد تبدو جديدة على أسماعهم حول إسرائيل، وحول المقاومة والكرامة، وحول الفعل المدني حين يكون الناس جميعا شركاء في صناعة المجد والإباء والوحدة الوطنية كما حصل في الانتفاضة الأولى، إضافة إلى كلامه عن خطاب إسلامي جديد.
نفس الكتاب الذي سأسعى لطباعته في مصر ـ حيث لم يكن مطبوعا فيها ـ حتى أنجح في أن يصدر بسعر خرافي زهيد "جنية ونصف" ضمن مشروع القراءة للجميع على هامش اندلاع انتفاضة الأقصى ـ الانتفاضة الثانية ـ فيما بعد!!
وهكذا كانت كتب المسيري، فمن الصعب أن تقاوم مؤسسة رسمية أو خاصة فكرة النشر لهذا الرجل مهما كتب لأنه يكتب جديدا، وبلغة في متناول القارئ العادي غالبا، رغم جزالة الأفكار، وعمق الرؤية!!
بعد لقاءنا الأول صرنا أصدقاء بالمعنى الكامل للكلمة، وزرته في بيته وحدي، وربما كان ممن باركوا زواجي مطلع التسعينات ممن حضرت اللقاء الأول الذي دعوتها إليه، ثم ربما تقابلنا عنده مرة أو مرات، ثم أصبحنا كأسرة على علاقة وثيقة بالدكتور عبد الوهاب وأسرته: زوجته د. هدى حجازي، ونجله ياسر، وكريمته د. نور، وكم زاحمنا نور وياسر على أبيهما فلم يكن يمر أسبوع إلا ونحن على اتصال هاتفي أو زيارة منزلية أو دعوة على طعام، الأمر الذي أرى الآن أنه كان زائدا من طرفنا، لكن أغرانا الرجل بكرمه وترحابه، وأشعرنا أن بيته وقلبه وعقله مفتوح لنا جميعا مثل نور وياسر، وأحيانا أكثر ربما، وكنا نحتاج إلى مثل هذا الاحتضان.
طبعا كانت الموسوعة ـ أكبر أعمال المسيري ـ في طور التشطيبات التي طالت لأن المسيري كان شيئا يقترب من الكمال، وكان يعيد كتابة بعض المداخل، وقد يظل يعدل في ضوء ما يراه ويشعره في نفسه من نضج أو عمق أو تطور في الرؤية، وكان يطرح علينا بعض الأفكار ثم نجتمع لنناقشه وينصت، ويشعرنا أنه يستجيب ويتفاعل، وربما يضيف أو يحذف بناءا على ما يستحسنه من كلام أحدنا، فكنا نحذر أن نتكلم عنده لغوا أو محض الكلام المرسل الذي يملأ مجالسنا عامة!!
لكنني أرى الآن أن إنجاز الموسوعة كان هو العنوان الذي ضمنا وقتها، لكنه لم يكن أكثر من حجة لنتقابل مع المسيري، ونعيش مع هذا الرجل/الحالة، في منزله الفريد حيث كل قطعة لها قصة، وآتية من بلد لتضيف معنى في منظومة متكاملة نتشربها ونختزنها في وعينا الحاضر والباطن كما نخترق منهاج الرجل في الدرس والتفكير، وحتى طريقته في المزاح، وآراءه في الحياة!
لن أنس ما حييت ذلك الصباح الذي فتحت فيه هاتفي المحمول لأتلقى مكالمة مبكرة باكية بل منتحبة من إحدى بنات المسيري تبلغني بانتقاله إلى الرفيق الأعلى، وهذه الطبيبة ـ اليوم ـ كانت مجرد طالبة متسائلة قلقة قابلتها منذ سنوات لا أحصى عددها الآن، وبدا لي وقتها أنها تستفيد لو عرفتها طريق المسيري، وقد كان فأصبحت بعد قليل من بنات المسيري هي وأخريات ممن يحضرن لقاءات شهرية يعقدها في بيته، ولا يهم العنوان المطروح للنقاش، لأن الأهم أن تجلس مع المسيري تسمع نكاته وحكاياته والجديد من رؤاه وتصوراته، ويشركك معه في أحدث مشاريعه الفكرية فتجد نفسك منتشيا وأنت تقول من ضمن وظائفك في الحياة أنك باحث مساعد للدكتور المسيري!!
يمكن أن أظل أحكي بلا نهاية عن هذا الرجل وعن جوانب تميزه وعطائه، لكنني أحاول استكشاف المسيري في حياتي أنا، لعل هذا ما لا يستطيعه غيري!!
هدأت من روع مهاتفتي شاعرا بالارتياح من جهة أن المسيري قد استراح، ولا بأس عليه بعد اليوم بإذن الله: لا مواعيد علاج كيميائي، ولا اضطراب في الصحة، ولا في النوم، ولا حرقة دم من حاكم مستبد، ولا إعلامي يلح، ولا ألسنة تطعن، أو ذمم خربانة تشكك في رقي الرجل، أو صدقه أو جهاده!
وبعد أن أغلقت الخط امتلأ كياني بأن المسيري قد ساهم بنصيب موفور في أن أكون أنا كما أعيش وأفكر، وأدركت أنه لولا أنني قابلت المسيري بفضل الله فقد لا يمكنني تصور مكاني اليوم!!
بدون الموسوعة، وكتاب الانتفاضة، وندوة التحيز، وكل لقاء بيننا في بيته، وحتى آخر لقاء قبل وفاته بنحو أسبوع، وهو يحاضرنا في مؤتمر الطب النفسي العربي بالقاهرة عن مؤشرات انحدار إسرائيل، وكانت صحته ليست في أحسن أحوالها!!
اكتشفت يومها أنني لا أتحمل أن أرى أستاذي في هذه الحالة من ضعف الصحة الجسمانية، رغم قوته النفسية العالية دوما!!! وتأكدت يومها ـ ولم أكن في حاجة لأتأكد ـ أنني تغافلت لسنوات عن زيارته في مرضه، وبخاصة حين كانت حالته تتدهور، قام عني العشرات بهذا، أما أنا فكان الأنسب لي أن يظل المسيري في ذاكرتي ومخيلتي ووعيي هو ذلك الفارس، والرجل القوي حاضر الذهن، نشيط الحركة، صاحب المشروع تلو المشروع، وتركت الفرصة للأصغر يلحقوا بالرجل، وينعموا ببعض رحابه، وكم كان يعز علي أن أغيب عن هذا الرحاب، ولم أستطع أن أسوق هذا التبرير لاختفائي، فقط اكتفيت بمكالمة من آن لآخر على قدر المناسبة أو الحاجة!!
كنت أشعر أن بصمة المسيري قد استقرت تماما بداخلي، وأته قد ترسخ في حضور كثيف وعميق في الوعي عندي، وفي كل تفكيري وحركتي إضافة إلى بصمات آخرين، وكم كنت أسعد حين يصنفني الناس ضمن أتباعه الفكريين، أو تلاميذه أو مساعديه، رغم أنني بطبيعتي لا أحب ولا أستطيع أن أكون تابعا لأحد أو صدى لصوت أحد!!
يبدو أن المسيري قد أعطاني الثقة في نفسي وديني وثقافتي، وأعطاني المفاتيح لكي أنتقد الغرب وحضارته وثقافته دون أن أستخف بتجربته، التي هي ليست فوق مستوى النقد، ويبدو أنه علمني أن المفكر الحقيقي لابد أن يتابع ويفهم ويتذوق مفردات ثقافة وفنون بلده كما عصره، وأنه لا مستقبل لأحد لا يعرف جذوره وماضيه دون أن يتجمد عندها، بل يستوعبها ليتجاوز أشكالها إلى مضامينها، وإلى مستقبلها متفاعلا مع معطيات الفكر الإنساني جميعا، علمني أن المقاومة والبناء والتحضر والجهاد هي معاني لا تحتاج إلى كثير صراخ بقدر ما تحتاج إلى فعل ودأب واستمرار دون كلل أو ملل، وعلمني بأفعاله أن المفكر موقف كما هو كلمة، وأن شموخ الأستاذ في فصل درسه وبين طلابه لا يكتمل إلا بوقفته في وجه البؤس واليأس والطغيان والغباء حين يحكم وينتشر، وأن لهذه المواقف أثمانا تدفع، أو يلزم المرء بيته يشكو وينتقد شفاهة فقط!!
ساهم المسيري في بناء عقل حكيم/ وتنشيط قلب أسد، وتقوية روح النقد والتجديد والإصرار والدأب، وإشعال طموح ورغبة في الإبداع والتميز بداخلي.
ولم ينسى أن يجمعنا بآخرين يحلمون نفس الهموم سواءا في ندوة التحيز أو بشكل عام ومستمر حتى وجدت نفسي وسط عائلة وشبكة معارف من أرقى الناس، وأفضلهم فكرا وتحضرا وحرصا على الحقيقة والمعرفة!!! أبناء المسيري من كل الأجيال أراهم اليوم في صلاة جنازته من طلاب إلى مهنيين ومثقفين وناشطين من كل التيارات إلا أرباب السلطة فقد تشرفت جنازته بعدم حضورهم!
وعرفني المسيري على أسماء مثل: د. حامد الموصلي، ود. جلال أمين، وتوثقت معه وعبره صلتي بأمثال الأستاذ عادل حسين، والأستاذ فهمي هويدي، وقابلت عنده الأستاذ هيكل، وسعيد الحسن، ومفكرين من أقطار شتى فقد كان عروبيا بقدر ما كان إسلاميا، ومصريا صميما بقدر ما كان عالميا منفتحا!!
تعلمت من المسيري ألا أخشى اقتحام القضايا، وألا أهتز في مواجهة أي أساطير، وحياتنا تمتلئ بالأساطير، وقد كان يورينا بنفسه كيف يهوي بمعاول النقد على ركام الأوهام فتنقشع!!
حرى بأبناء المسيري ومجايليه أن يلتئموا من بعده فهم كوكبة نادرة، وكان هو خيط تجميعهم، وواسطة عقدهم/ وجدير بهم أن يبقوا على رحابه مفتوحا ودافئا بعد أن رحل هو وصعد إلى أفضل رحاب.
واقرأ أيضًا
على باب الله: لا إله إلا الله/ على باب الله: الإصلاح ممكن