ربما مرَّ بخاطري منذ عامٍ أو يزيد خبرٌ عن تسرب أسئلة امتحانات الثانوية العامة: لكنني في ذلك الوقت على ما يبدو لم أجد في الأمر جديدا من ناحية أن حالة انتفاء الذوق العام والفساد والسيولة القيمية وكون كل شيء في مصر قابلا للشراء كل الذمم فيها مطاطة... وربما كنت منشغلا بأن المادة التي تسربت أسئلتها ليست مما يدرسه ابني الأكبر طارق... فأعيَيْت أن أكمل المتابعة والتأمل لفضيحة من بين فضائح الإنسان المصري المتتالية.... كفانا ما نحن فيه من هم الناس وهم مجانين وهم المجانين...... حتى عندما أتتني الرسالة التي تقدم نموذجا ساخرا لامتحان اللغة العربية للثانوية العامة... ورحت أضحك وأنا أقرأه... والآن أنا ابني الثاني الآن في الثانوية العامة أيضًا.. رغم ذلك لا أدري لماذا افترضت أن امتحانات الثانوية العامة بالذات وبالمخصوص خدا لا يمكن أن تتسرب أسئلتها..... ومازحت ابني الأكبر...: جاءني بريد إليكتروني اليوم اسمه: حصريا امتحان الثانوية العامة عربي..... وكله سياسة وبكاء على حال البلد... شد حيلك يا ولد... وقوم ذاكر!...... وأكيد كل رواد الإنترنت المصريين على الأقل وصلهم هذا البريد.. وأضحكهم وأبكاهم... وأنا في كل ذلك كله، لم أكن بعد مستعدا لتصديق أن أسئلة امتحانات الثانوية العامة أيضًا تتسرب...
أذكر أنني استثنيت أبناء الوزراء والسفراء وعلية القوم... وقلت ماشي هذا يخرج أولادنا من منافستهم... لنا الله.....وهو وحده المتكفل بالعدل في بلادنا العربية كلها بل في كل العالم لو تحرينا الصدق، وأيضًا كله إلا أسئلة الثانوية العامة هكذا كنت أفكرُ.... تبقى أسئلة الثانوية العامة سرا لا يعطى إلا مثلا من خلال جريدة يفترض ويستهدفُ أن تصل الجميع... يعني لو أراد وزير مثلا أن يغشش الامتحان لابنه فإنه يغششه للجميع لأن المساواة في الغش عدل ومن غير العدل أن نعتبر الامتحان المتسربة أسئلته امتحانا حقيقيا!.... المهم أن السرية التي عايشها أفراد جيلي فيما يتعلق بامتحانات الثانوية العامة كانت فيما يبدو مستقرَّةً داخلي وكأنها شيء مختلف عن القيم والمبادئ في مصر! كم أنا طيب يا مجانين...... وألف خزي ألف خزي يا مصر بل يا مصريين.
أما ما حدث أثناء الامتحانات هذا العام فهو أنني سمعت أخبارا عن تسرب أسئلة امتحان الإنجليزي... وخشية البعض من أن يلغى امتحان الإنجليزي لكل الطلبة فيضطرون لإعادته.... (يعني الحكاية لها سوابق بحق وحقيق وأنا ولا أنا هنا).... وفاجأني ابني وقد أحسن الإجابة في الإنجليزي -والحمد لله- فاجأني عندما سألته بعد أن بشرني: يقولون أن بعض الناس كانت معها الأسئلة، فقال: عادي..... قلت: عادي إن أسئلة الثانوية العامة تتسرب؟؟؟ فرد جازما ساخرا حزينا: "في مصر يا بابا كل حاجة ممكن تباع وتشترى".... هذه فكرة ابني الأصغر عن بلده وليست فكرة أخيه الأكبر أفضل عن مصر!
ما معنى ذلك؟ كيف تستقيم فكرة الامتحان مع فكرة غياب العدالة؟ ثم ما هي حكاية الموجة المتزايدة سنة بعد سنة من أولادٍ وبنات يسافرن إلى مركز رئيسي في عدة محافظات ويطلبن إعادة تصحيح أوراق إجابتهم.. وأنباء عن هذا الذي اكتشف خطأ في الجمع وحسب له وآخر وجد خطأ في فنية تقييم الإجابة... وكلام كبير جدا لكنه مع الأسف نادرا ما يفيد أحدا وغالبا ما يجد الطالب وأهله أن سكوته أحسن..... رضا بالأمر الواقع ولكن من المتخيل أصلا أن عملية تصحيح الثانوية العامة عملية دقيقة ورصينة وعادلة ولا نستطيع تخيل غير ذلك ربما كآباء وأمهات فلماذا فقد التصحيح مصداقيته ولمصلحة من؟ هل هي لعبة حكومية ذكية؟ تكسب مائة جنيه لتصحيح ورقة واحدة من ورقك كطالب وفي نفس الوقت تعطيك وأهلك وقتا للرضا وحتى لا نترك شيئا إلا ونفعله لأولادنا... يا لها من حكومة ذكية..... المأساة أننا لا نستطيع تخيل امتحان دون عدالة!
فعلا حالة البلد أسوأ من كل ما تخيلناه! أنا لا أقرأ إلا النذر القليل من عناوين الجرائد وكثيرا أكتفي بما تمطرني به قناة الجزيرة في نشرتها كل ليلة.... تكلمت مع ابن عبد الله عن حقنا في المطالبة بإشراف دولي على عملية الامتحانات، وضحكنا: من الانتخابات إلى الامتحانات يا قلب لا تحزن... ولكن مسألة السكوت على غياب العدالة في امتحانات يفترضُ أنها تؤثر بعمق في مسار حياة الأبناء بل والأسرة كلها... أمرٌ بالفعل لم يعد محتملا.... لكن الذي يبدو أن الفساد في هذا البلد صار بلا حدود مع الاعتذار لأحمد منصور مقدم برنامج الجزيرة الشهير "بلا حدود"..... هل من الممكن فعلا أن تأتي أسئلة الامتحانات من الخارج؟؟ وهل يمكن أن تتم عمليات الامتحانات والمراقبة والتصحيح تحت إشراف دولي؟ إإلى هذا الحد نحتاج إشرافا دوليا لتستقيم أمور أبنائنا؟ فيحصل كل منهم على العدالة التي يستحق....
غير بعيد هنا أن عمليات الغش الجماعي وفضائحها تكررت على مستوى الجمهورية منذ أعوام وما تزال.. الذوق العام فاسد... بل إن بعض ذوي اللحى يشاركون فيه بل ويحللونه وتلك مصيبة سوداء! ولا داعي هنا لذكر أقوالهم لأنها سرعان ما تسقط من الفهم السليم البسيط... لروح وفقه الإسلام... لكن أقوالهم ذاتها مع الأسف تفتح الأبواب أمام التمادي في الغش في لجان الامتحانات... المنتقبات يدخلن بالمحمول ويذكرن الأسئلة في البلو توث ويأتيهن الرد طوال فترة الامتحان... أي تهريج هذا؟؟... ثم ما هي حكاية لجان الامتحانات التي يقبل المراقبون فيها الرشاوى من الطلبة أو من أهالي الطلبة... فتصبح اللجنة مهرجانا للغش الجماعي.. كيف لنا أن نتفهم وماذا يمكن أن نستنتج من حكايات ابني أحمد عن اللجنة التي كان فيها صديقه المقرب وكانت ابنة.... تعطي المراقبين نقودا كثيرة فكان الطلبة يغشون براحتهم!!... أنا شخصيا لا أستطيع تخيل المراقب وهو يمد يده ليأخذ الرشوة... لماذا لا أستطيع يبدو أنها مشكلة شخصية... والمنطقي هو أن المصري إصدار 2008 يقبل الرشوة ويراها حلالا من خلال فتوى شخصية على أقل الاحتمالات... ويبدو أنه من كثرة ما اعتاد الظلم واعتاد أن يذنب الكل في حقه أصبح لا يشعر وهو يظلم أنه يظلم وأصبح حين يذنب لا يشعر بالذنب!!
ثم... وما أصعب ثم.. ماذا نسمع عن عملية أخرى لا تقل أهمية عن كل ما سبق وهي عملية التصحيح... والتي تبدو الفضائح والأخطاء فيها كاريكاتيرية بشكل ملحوظ... فتسمع عن من يعطي الدرجات دون أن يفتح الورقة!... وبصراحة ما تزال عندي مشكلة في تصديق هذا.. وتسمع عن الطالب الذي طلب إعادة التصحيح وأثبت أنه لم تُجمَع له درجة السؤال الفلاني.. أو تسمع أن نموذج الإجابة في مادة كذا كان فيه خطأ.. وأن ذلك سبب ارتباكا بين المصححين... ثم يفجعك حضرة سعادة الوزير بأن الدرجة تعطى للطالب الذي يجيب طبقا للنموذج.. يعني تعطى لمن يجيب إجابة خاطئة.. ما هذا التهريج الواصل حد الإسفاف.... أحيانا أتخيل أن الحكومة المصرية الموقرة تستغل الموقف فتطلق الشائعات أو تصدر التصريحات التي تسبب بلبلة من أجل توريط الناس في طلبات الكشف عن التصحيح أو عن ورقة الإجابة ورسوم الكشف 100 جنيه للورقة وطبعا "الحسابة بتحسب" وتأخذ الوزارة سحتا ما في جيوب الناس! ونادرا ما يستفيد أحد غير الحكومة.
كل ما سبق اشتكى منه مرضى هذه السنة... ومنهن من جاءت تشتكي من أن زميلاتها الثلاثة المقربات كن على علم بامتحان الفيزياء... وهنا انتفضت حتى الفيزياء سنة 2008 والتي يعرف الجميع أنها كانت من الصعوبة بمكان... حتى الفيزياء... كيف تتحقق العدالة؟؟... وكيف يستقيم مفهوم الامتحان؟؟ أرى أنه لا حل لمعضلة أو لموضوع امتحانات الثانوية العامة طالما بقي الإنسان المصري إصدار 2008 قائما بأعمالها... وليس أفضل في رأيي من المطالبة بإشراف دولي على الامتحانات وضع الأسئلة وإجراء الامتحان وعملية المراقبة والتصحيح وحبذا لو أيضًا تجميع الدرجات وإعلان النتيجة وإطلاق التصريحات بشأنها بحيث لا يكون من المصريين غير الطلبة وأهل الطلبة... يعني نحتاج لاستيراد نماذج للإنسان الذي يحترم نفسه ويطبق العدالة قدر استطاعته فيمتنع عن الظلم لأنه يطبق القانون على الجميع ويمتنع عن الذنب لأنه يشعر بالذنب إذا أذنب... مثل هذه النماذج التي لم تعد موجودة تقريبا في مصر يجب استيرادها وإعطاؤها الفرصة لتحتك بالإنسان المصري في إصداراته التي ستتوالى إن شاء الله... 2009 ... 2090 وعندها على أفضل التقدير وأكثره تفاؤلا ربما يكرمنا الله بإصدار من المصريين فيه من يحترمون أنفسهم ويصلحون للإشراف على الامتحانات... يا ترى ماذا يرى المجانين في مسألة المطالبة بإشراف دولي على امتحانات الثانوية العامة؟ ماذا يرى المجانين؟؟
واقرأ أيضا:
الإنسان السعودي بين الأمس واليوم مفاجأة/ الإنسان السعودي بين الأمس واليوم مشاركات