تعودنا أن نصف ما لا نستطيع فهمه رسما بأنه تعبير سريالي، وفي أذني صوت عبد السلام النابلسي يصيح واصفا صور التقطها منبطحا دون أن يلقط فيها الشخص المقصود فذهب يبرر: هذا "سيرياليزم"، أي سيريالية!!
والمشهد الذي أرانا نعيشه يبدو عبثيا من فرط الفوضى واللامعقول، ولولا أنني أراه وأفهمه لقلت مثل النابلسي: "سيرياليزم"، وفي حالتنا وحياتنا فإن سيرياليتنا واقعية جدا، ومن لحم ودم ودموع وزفرات!!
ينقل الكاتب أحمد الخميسي في "أخبار الأدب" عن جريدة الأخبار أنها نشرت خبرا عن جريمة قتل فيها نقّاش عمره ستة عشر عاما، طفلة في السادسة بعد أن أغتصبها، خاف من افتضاح أمره فهشم رأسها الصغير تماما ثم غادر المكان حتى تم ضبطه!
ويدخل الخميسي إلى الممنوع بدرجة ملحوظة من الحذر لأنه يناقش قضية بالغة الخطورة والتوتر في مجتمعنا المعاصر، قضية الجوع والحرمان الجنسي، وليس سرا أن ملايين الرجال والنساء عندنا في حرمان ويتتبع الخميسي في بحثه عن جذور المشكلة، وربما آفاق التعامل معها قصة البغاء الذي كان مرخصاً في مصر، ثم صار ممنوعاً تماماً من بداية خمسينات القرن العشرين.
والخميسي يتجول في العالم لينقل لنا أرقاما وإحصائيات عن أوضاع البغاء حول العالم، ثم يعرج إلى أشكال أخرى من العلاقات بين الرجال والنساء هنا وهناك مارا عليها مرورا سريعا لينتهي بما بدأ به تقريبا قائلا:
"نحن لا نستطيع من جميع النواحي السماح بوصمة البغاء التي كان مسموحا بها من قبل، ولكن لا ينبغي أيضا أن نسمح بقتل طفلة في السادسة لم تعرف من الدنيا شيئا سوى أن جائعا جنسيا قيدها واغتصبها، وهشم رأسها، ومضى إلى حال سبيله"... انتهى كلام الخميسي هنا، وانفجرت أسئلتي.
لم أجد لنفسي عذرا لأتغافل عما كتب، وعما لم يكتب!!
رسالة الدكتوراه التي أنهيتها وناقشتها منذ شهور موضوعها التحرش والاغتصاب للفتيات، وكم كتبت وحاضرت وتلفزت حول نفس الموضوع، ومؤخرا كانت محاضرتي ضمن إطار حملة لوقف المعاكسات والتحرش بالبنات، وصدمت شباب الحضور بحقائق كثيرة يجهلونها حول الأمر لدرجة أشفقت عليهم بعدها لأن حجم الغثاء المنثور والمتداول كثير!!!
أول هذه الحقائق أن هذا الفعل البشع فيه من العنف والقسوة والعدوان عادة أكثر مما فيه من الرغبة والشهوة الجنسية، طاقة العدوان بداخل البعض متأججة لأسباب لا تخفى على أحد، ومنها الحرمان والجوع النفسي طبعا، وهذه الطاقة المخزونة تبحث عن منفذ ومخرج ومتنفس فتجده في مساحات تزايد العنف المجتمعي، ومنها التحرش المتزايد حصوله! وأشكال العنف الأخرى.
إذن هناك علاقة وثيقة جدا بين الجوع الجنسي والحرمان من الإشباع الجسدي، وبين نشوء وتصاعد طاقة العدوان المختزنة بداخل المحروم الجائع "من الجنسين بالمناسبة"، لكن أن يخرج هذا العنف والعدوان في صورة تحرش أو اعتداء جنسي فإن هذا ليس حتميا لأنه يخضع لمتغيرات أخرى كثيرة، وإلا كنا سنرى ونسمع ونعرف أن الأغلبية الساحقة من المصريين يتحرشون ويغتصبون، وهو ما لم يحدث ـ حتى الآن ـ رغم أن هذه الأغلبية الساحقة لديها جوع وحرمان جنسي، ولديها أسباب أخرى أهم وأثقل وأخطر أحيانا لتراكم طاقة العدوان والعنف!! ولكن صور انطلاق هذه الطاقة تختلف لأسباب كثيرة.
أما ثانيا، وهو ما لم تتح أمامه فرصة كبيرة في حواري مع الشباب لأنه يستحق لقاءً منفصلا أو عدة لقاءات، فإن كل ما تقدم لا يتعارض ولا ينفي ولا يخفف من خطورة بؤس الوضع الجنسي في مصر والعالم العربي من جهة الجوع والحرمان!! ومن جهة الجهل واضطراب الممارسات، وهذا الخلل الرهيب هو عقلي واجتماعي وثقافي ومن ناحية الخطابات الزاعقة في ضوضاء حياتنا وحواراتنا، فالذين ما زالوا يصرون على تحريم الزواج العرفي أو زواج المسيار وغيرها من أشكال الزواج التي يحاولها الناس، تيار المعارضة الجارف لهذه الأشكال لم يقترح بديلا عمليا واحدا، أو عدة بدائل معقولة أو متاحة، ومجرد الرفض لا يصلح علاجا لمعضلة كهذه!
والذين يرفضون تعدد الزوجات، بل ويسعون إلى تقنين تحجيمه، وكأن ذلك في مصلحة النساء، لا يقدمون بديلا واحدا معقولا وممكنا لملايين النساء الوحيدات الجائعات للجنس كما الرجال!!! والباحثات عن الحب، بل وإن أحدا من ذوي العقل أو الرأي أو المشورة لا يجرؤ على الدخول إلى "عش الدبابير" لمناقشة هذا الموضوع بجدية، ولكن يستريح المثقفون ويؤثرون السلام والسلامة بشتيمة النخبة أو السلطة أو حتى ممارسات الناس التائهين في البحث عن حلول!! المحرومين من أبسط درجات الإشباع الحسي، وعندنا فإن المجتمعات تنهار ولا تعترف، وتعتقد وتزعم أنها بخير وعلى خير!!
وتزعم وتعتقد أنها تقاوم الفاحشة بينما هي ساقطة فيها تماما تعيشها وتنشرها دعارة وفجورا، فمن لا يجد أبواب الإشباع متاحة ومفتوحة كم من الوقت عساه أن يصبر؟! وبخاصة إذا تذكرنا أن المسألة مرتبطة بطاقة العدوان والعنف المخزونة بداخله!!!
تكفلت الفوضى السياسية والاستبداد والفساد، وأوضاعنا الاقتصادية بإفساد حياتنا ومستقبلنا، وتستكمل الفوضى الاجتماعية، وما يروق للبعض أن يصفه بالمحافظة الأخلاقية، أو الالتزام الديني.. أقول أكملت هذه الأنظمة أو اللاأنظمة الخناق حول رقابنا فصرنا محرومين، ومجرد براميل بارود تختزن درجات عالية جدا من البؤس واليأس والقابلية للاشتعال لأدنى سبب، وأحيانا بغير أسباب على الإطلاق!!!
البشر المحرومة من كوب الماء النظيف، والتعليم اللائق، والرعاية الصحية الأساسية، وكافة الحقوق الآدمية والحاجات البسيطة والبدائية بحسب هرم "ماسلو" للحاجات، والبشر المحرومة من حرية التعبير والتفكير، وغير ذلك من الحريات الأعلى المفتقدة وسط المولد الذي غاب أصحابه، الذي هو حياتنا، هؤلاء البشر ماذا ننتظر منهم غير العدوان على الذات وعلى الغير وعلى الوطن بأهله ومقدراته!!
والنظام الاجتماعي الذي لا يكفل لنا إلا البؤس والحرمان، وهؤلاء الذين لا يجدون تحليلا ولا حلا لهذه المآسي أما آن لهم أن يسكتوا أم أن الضجيج الفارغ هو قدرنا؟!!
وددت لو أشكر الأستاذ الخميسي لأنه فتح الباب، ووددت لو أتساءل معه، وأفتح حوارا جادا حول ما نعيشه، وما نتوقعه لمستقبلنا في ظل هذه الفوضى المتزايدة والحرمان وانغلاق الأفق!! نقاش حول فشلنا في استلهام الإسلام، أو حتى التعليم من العالم
والمدهش أن الكل يدفع الثمن حتى التعساء من المتزوجين والمتزوجات في العيادات النفسية لنفس السبب: الحرمان والجوع بسبب الأفهام الخاطئة، والممارسات المختلة، وما أكثرها!!
تعاسة عريضة وشقاء مستمر، وبؤس يحرسه حمق وجهل مطبق وعميق!!
على من نطلق الرصاص يا أستاذ خميسي؟!
ومن الذي يرعى الغباء والتخلف فينمو عندنا ويترعرع؟!!
ومن يوقف هذا الهزل، وينشر غيره؟!
ومن يقف في وجه تلك الخطايا والحماقات التي تتراكم ليقول كلمة حق، ويدفع الثمن؟!!
ومن يتيح لنا إعلاما يناقش قضايانا بدلا من الاقتصار على شتيمة السلطات، أو أخبار الراقصات والفنانات، ونجوم الكرة والبيزنس!!
إن الغباء الذي يحكمنا في السياسات هو الذي يحكمنا في الفتن الطائفية، وهو الذي يحركنا ونحن ننتحر هروبا من هذا كله قفزا في المتوسط، وهو ذاته الذي يتجاهل أن حياتنا الجنسية مضطربة بعمق مرضي خطير!! وأخطر شيء في المشهد السيريالي أنه حتى الفرد المتعلم صار يخلط ويتخبط ولا يستطيع التمييز، ولكن هذا حديث آخر!!
واقرأ أيضًا:
على باب الله: أنت جميل/ على باب الله: عن الخلط والتمييز