ليس كل إنسان يستطيع أن يحكي، ونحن المصريون كنا وما زلنا شعبا يعشق الحكايات، وأحيانا تستغرقه الحكايات على حساب أشياء أخرى مهمة.
وصديقي الحميم يحب الحكي والحكايات، ولكن الواقع المحيط لم يعد يفهم الفارق بين الحكاية والحقيقة، ولم يعد يدرك أين ينبغي أن يتوقف ليصدر حكما، أو يغمض عينيه ليمرر كذبا مقبولا حين يكون حكيا، وربما أمتع، ولكنه يصير مأزقا حين يصدقه الناس!!
هذا كله كلام قديم، لكن الجديد أن عصرنا صار يخلط الهزل بالجد، والحكي بالواقع على نحو غير مسبوق في تاريخ الإنسانية ربما!!
وحين أنظر إلى الوراء أستعيد وأبتسم متأملا سذاجة الصحاب، وربما أراه غباءً عاما صنعته طبيعة المرحلة!! وسحر الحكاية غلبني يوماً واستسلمت له باحثا عن المزيد، رغم إدراكي للاحتيال الكامن، وثقتي في أن الحبكة مكشوفة، ولكنها لذيذة!!
ونفس الشيء يتكرر وأراه، لكن الدخول في الحكايات صار آخر ما يمكن أن أتورط فيه، في وسط هؤلاء المساكين أو الأشرار الذين لا يدركون، أو لعلهم يخلطون عمدا، ولأغراض مسبقة بين الأساطير والحقائق!!
لقد كتبت عن الخلط والتمييز، وأحسب أن مسألة الحكايات صارت مفتاحاً لفهم أنفسنا وعصرنا بشكل عميق، صياغة الحكاية، حبك الخداع، فبركة الأكاذيب وصياغتها على نحو يجعلها تبدو كأنها معلومات جديرة بالاعتبار، تكرار الكذب، التلاعب بالكلمات والألفاظ، استخدام الصور المؤثرة، وليس بالضرورة أبدا أن تكون صادقة، أو ذات علاقة بالحكاية!!
جمهور صائد مستسلم، نصف نائم، أو هو واقع تحت تأثير التنويم العولمي بأدوات الاتصال التي ترسخ ألوانا جديرة من المعتقدات، واليقين الزائف المستند إلى مرجعية الأوهام الإليكترونية!!!
كنت أحضر أفلاما برازيلية ضمن أسبوع نظمه مركز الإبداع بدار الأوبرا، وفوجئت مع آخرين بتغييرات في الجدول المطبوع تمثل في إلغاء بعض العروض!!
إحدى الحاضرات علقت على أحد الأفلام الملغاة بأنه قليل القيمة ومصدرها في ذلك الأنترنت (هكذا بتعميم)، أحد المشاهدين المتابعين بدأب للسينما العالمية استنكر وتهكم، وقال إن الفيلم قد حصد إيرادات هائلة، وأثار نقاشات واسعة منذ عرضه وحتى الآن!!
صاحبتنا إذن جاءت تقول: الإنترنت صار مرجعيه معتبرة، رغم أن الكل يعرف حجم الكذب والتلفيق والتلاعب، أو على الأقل عدم الدقة التي تشوب هذا الوسيط الإعلامي الإليكتروني!!!
هل هو سحر الحكاية، وغواية القصص والسير؟!!
ما زلت متأملا ومندهشا مع فهمي المتصاعد لمسلسل الخديعة، وانزلاق السذج ممن يحسبون أنفسهم على شيء، وهم يضعون أيديهم على معلومات وأدلة وبراهين، ويتخذون مواقفَ أو يكونون آراء بالاستناد إلى هواء وهباء، محض هواء وهباء!! وللأسف فإن حروبا يمكن أن تندلع في لحظة!!
مثل أي مهرج سيرك يستطيع أي أحد في عالم اليوم أن يدهن وجهه بالأصباغ، أو يضع قناعا من تقوى وورع، أو من غواية وإغراء، أو من جدية وحزم تشبه بهلوانات السياسة، أو من دموع تستدير العطف، أو من أي ملامح أو ماكياج، ويندمج في أداء حكاية، أية حكاية، والناس متشوقة للحكايات، وجاهزة تماما للتصديق مهما كانت الحبكة مكشوفة أو الحيلة ساذجة، لأن هناك أدلة وقرائن وحقائق هي محض الهواء والهباء والهراء الذي شاع في حياتنا وتكرر حتى ظنه الناس شيئا، فهم يتداولون ويقولون: وجدنا على الإنترنت أو الأنترنت بيقول!!!
كوميديا أم ميلودراما تلك الحياة البلهاء التي نعيشها؟!
روت لي إحداهن أنها هاتفت فندقا لتحجز غرفة لعروس، وسألت عن الأسعار والاختيارات شارحة ببساطة عن الظروف والأحداث لتختار مع محدثتها من الفندق العرض الأمثل والأنسب لهذه الملابسات والظروفـ،، ولم تحظ سوى برد مقتضب مؤداه أن جميع الغرف محجوزة!!
وأعادت الاتصال بالفندق، ولكن مستخدمة لكنة أجنبية، وإنجليزية تجيدها، وربما أضافت بعض من فرنسية تعرفها وتتكلمها بطلاقة أيضا، وسارعت إدارة الفندق ـ هذه المرة ـ إلى تلبية الطلب على أكمل وجه!!
مرة أخرى حكاية وتأثير، وهي نفسها تقول أن نظارتها الشمسية وطريقتها في الكلام بلكنة، وسيارتها المستأجرة بسائق خاص هي أشياء كفيلة وإكسسوارات كافية لنسج حكاية في أدمغة الناس، وبالتالي تكون في مأمن لأن الناس تعتقد أو توقن من هكذا ديكور أنها صاحبة حيثية، والحقيقة أنها فهمت كيف تتلاعب بعقول جمهور أبله يصدق الحكايات والمظاهر أكثر مما يتأثر أو يؤثر الحقائق وجواهر الأمور!!
أليس الأمر نفسه هو ما تفعله منقبة بنقابها أو متعرية بالمبالغة في إظهار أنها من مستوى طبقي يتعرى لأن هذا عادي، رغم أنها تكون مجرد امرأة عادية من طبقة متوسطة، ولكن اللكنة والنظارة واللحم العاري هي أدوات حبك الحكاية مثلما الإسدال الأسود والقفازات والكساء الذي يغطي كل شيء هي أدوات حكاية أخرى تلعب في رؤؤس الناس بطريقة أخرى!!
هواية قديمة أن أقف أمام بائعي الجرائد أطالع عناوين الصحف قبل أن أتصفح أو أشتري، وجرائدنا صارت تعيش وتطبع وتصدر على الحكايات والحكايات فقط: هذه تفاصيل فضيحة فلان، وتلك أسرار حفلة فلانة، وحوارات وتحرش بين هذا وذاك، ولا أدري هل الجرائد تغازل وتداعب وتتجاوب مع النمط الشائع في حياة الناس حاليا أم أن الناس هي التي تتعلم من الجرائد وتستعين بها مصدرا للحكايات؟!
القنوات الفضائية أيضا صارت مضخات لآلاف الحكايات عبر الأخبار والبرامج والأفلام والمسلسلات والناس غارقة في متابعة النجم الوسيم أو النجمة الأنيقة يستهلكون الصور والحكايات أو هي تستهلكهم!!!
الإقبال بنهم على هذه الوسائط والمواد يبدو أساسيا في منظومة الحياة التي يعيد فيها البشر إنتاج ما يستهلكونه أو يستهلكهم من صور وحكايات، ولكن بطريقتهم الخاصة، وفي حكاياتهم هم!!
لا يهمني إطلاقا أن أكرر أن الناس يكذبون كما يتنفسون، ولكنني أحاول فهم وتفسير وتحليل: كيف يكذبون؟! ولماذا يفعلون؟! وماذا يربحون من وراء هذا الكذب؟!
ولو فتحنا مجال العجب ورصد المفارقات فإن الإسلام يخط للحياة مسارات أخرى:
"ولا تقف ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد، كل أولئك كان عنه مسئولا"
"وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن، إن الشيطان ينزع بينهم"
"وقولوا للناس حسنا"
وغير ذلك كثير، ومثله في أحاديث الرسول مثل قوله صلى الله عليه وسلم:
"إن الله يكره القيل والقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال"
فماذا عن إضاعة الوقت والمال في مجرد القيل والقال؟!!
ثقافة قيل والقال بغير دليل ولا رشد ولا تمييز ولا حكمة ولا تبين ولا استهداف عمل أو تخطيط إنجاز ولا بناء ذات ولا تواصل صحي هي ثقافة تخريب تمارسه الملايين وهي لا تدري، وربما تدري أنها تصنع جحيمها الأرضي، وتتجهز للجحيم الأكبر يوم أن يعرضوا فيروا أعمالهم وأقوالهم: "أحصاه الله ونسوه"
ثقافة اللغط والغلط وتعميم الجهل المبني على تداول الكلام الفارغ، والحكايات المرسلة دون تعمق ولا تمحيص!!
أية حياة تلك الغارقة في طوفان الغثاء والبهتان، المصنوعة من صور وأساطير يتحول الناس فيها إلى ممثلين وكذبة وأشباه كذبة بوعي أو بنصف وعي موقنين أنهم لا يكذبون، ولكن فقط يتجملون!!!
هل قسوة الواقع تكفي مبررا؟! وهل ملاذات الحكي تصلح مهربا؟!
واقرأ أيضًا:
على باب الله: عن الخلط والتمييز/ على باب الله: بناء أمة