وسط ضجيج الخطابات والدعوات والإعلانات يمكن تمييز نبرة صوت صادر عن طائفة متنوعة الخلفيات، متحدة الوجهة، إنه التفكيك بلا توقف ولا حدود، ولا أفق بناء أو تغيير، ولا رؤية مختلفة، ولا شيء غير النقد والتفكيك!!! السخرية والتهكم!!
أطمح يوماً إلى رصد أو رسم صورة نفسية للمصريين المعاصرين، وسأكتب فيها أنهم يحبون الشكوى والتهكم والفرجة، ولا مكان واسع لديهم للتفكير العقلاني، أو التعاون الجماعي على حل المشكلات، أو إطلاق مبادرات تستثمر الجهود، أو تجديد حقيقي يراجع العيوب والثغرات!!
بينهم وبين العمل الإيجابي عقبات وعقبات، وتأتي أفعالهم مصبوغة باللون الفردي، وخائفة من سلطة خانقة مزعجة وغاشمة، ومن قاعدة شعبية بطيئة في استيعاب المختلف عن المعتاد والمألوف، سريعة في سوء الظن، وتداول الشائعات، واتهام النوايا، وإطلاق النكات، وإدمان الحكايات، دون أن تحرك ساكناً!!!
وفي مصر فتوق وفجوات، وتمزقات، وقبائل وفرق وطوائف، كتبت عنها تفصيلاً فيما سبق، وهي واضحة لكل صاحب عيون يبصر، وأوضح لكل صاحب بصيرة تعي وتكشف وتتألم!!
في مصر أغنياء وفقراء، وبينهما فوالق جيولوجية، وفوارق ثقافية، ونفسية واجتماعية، واختلافات في نوعية الهموم، ومحتوى الشعور بماهية مصر، والنظر إلى حاضرها وتاريخها ومستقبلها!!
في مصر أقباط ومسلمون.... كنت أتسمع ذات مرة لمن حولي في مترو الأنفاق فإذا بمجموعة من الشباب والفتيات في حوار مع أمريكي شاب صديق لهم أو ضيف عليهم يرافقونه، إحداهن تقول له بالانجليزية: نحن لا نحب اللغة العربية، ولا نحب الحديث بها، ونتعلم القبطية، ونحبها أكثر!!!!
ويبدو أن الأمريكي شعر بالاندهاش، وربما أراد إحراجهم فبدأ يسألهم عن بعض المعاني والكلمات والتراكيب والجمل باللغة القبطية، وأخذ يبتسم وهم عاجزون عن الرد عليه، فالحقيقة أنهم يقولون أن العربية ليست لغتهم ولا يفضلونها، في حين أنهم أيضاً لا يجيدون القبطية، وربما يجيدها آخرون من أقباط مصر حالياً، ويتعلمونها!!
وليست اللغة وحدها هي محل النزاع بالتأكيد بين أقباط ومسلمين، وليس الدين هو سبب التباعد الوحيد بين مصريين ومصريين!!
قرأت في جريدة يومية شهيرة عن شكوى تقدمت بها سيدات قبطيات إلى الكنائس التي يتردد عليها أبناؤهن، ومحتوى الشكوى هو رغبتهم في فصل الأطفال الذين يترددون على مدارس الأحد بالكنيسة على أساس طبقي، لأنهن لا يردن اختلاط أبنائهن بأبناء الخدم والبوابين (جمع بواب)، على حد قول التقرير!!!
مصر "أولاد الناس"، ومصر "أولاد البوابين"، ومصر "المستوى"، ومصر "البيئة"، مصر "الأقباط"، ومصر "المسلمين"، وداخل كل طائفة تفريعات وتنويعات، وفروق وفتوق، وعقد نفسية، وحتى لا أنسى فإن مصر "الفاتحة" غير مصر "الغامقة"، وأعني بذلك تقسيماً وتفريقاً على أساس لون البشرة، ولا حول ولا قوة ألا بالله!!
في مصر عشرون نوع تعليم ما بين ديني ومدني وعلماني وأوربي وأمريكي، ولا يجتمع المصريون كمصريين إلا في مباريات الكرة، وحتى هذه فإن واقعهم لا يبخل عليهم بمن ينغص عليهم هذه الرابطة تحت دعوى أن الكرة تفاهة، وشوف لك حاجة تنفعك أحسن، ذاكر، روح أحفظ قرآن، ولا صلي لك ركعتين... وهكذا!!!
تشعر في مصر أنك في مولد، وصاحبه غائب، وفي كل ناحية أقوام يتفرجون أو يلعبون، يلهون أو يجدون، ولكنهم لا يكادون يشعرون بغيرهم، وأحياناً لا يكادون يرونهم أصلاً، و"أهي ماشية"!
شاهدت فيلم "حسن ومرقص"، وشعرت بعبثية أوضاعنا، ليس بسبب الفيلم، فهو فيلم خفيف يشبه نكتة طويلة "شوية"، ولا يخلو بالطبع من دلالات وإشارات أراها جيدة إجمالاً.
أدهشني ما شعرت به من حالة البلادة القومية والإنسانية التي نعيشها حين تحولت ملفات رهيبة عندنا إلى مجرد حكايات مزمنة نتعايش معها، وكأنها ليست ألغاما تهددنا، إنما فقط نتفرج ونشتكي، ونحكي ونتهكم، ولا أحد يحرك ساكناً إلا عندما تنفجر أزمة فيذهب هذا الطرف أو ذاك إلى لملمة الموضوع، والوصول إلى تراضي ما بالقوة أو بالذوق، ثم نعود إلى سابق سيرتنا، وهكذا في كل حياتنا وقضايانا: لا دولة ولا مجتمع، لا جامعات ولا مراكز أبحاث تبذل جهداً حقيقياً في أداء وظيفتها البحثية، ولو حصل هذا فإن نتاج هذه الأبحاث الناتجة لا يعبأ به أحد، ولا يناقشه أحد، وربما لا يسمع به أحد!!
والحوار العام عندنا هو عبارة عن "شوية" برامج تلفزيون تقول أنها تعرض صورة يومية للواقع الذي يزداد انهيارا يوما بعد يوم، وتفتح الخط على كام مكالمة تصرخ ونشتكي، وفرجة مسلية للغالبية، وموجعة للبعض كل ليلة، حتى تقليب المواجع صار فرجة وخلاص، وأهي ليلة وتعدي، وهكذا تمر الليلة، وكل ليلة، ومن الصيف للشتاء، ومن رمضان إلى منتصف العام، ومن مارينا إلى الصعيد، نبات ونصحو على انهيارات وكوارث، والناس تردد "عادي"، أو تندهش شوية، وبعدين تنسى أو تتناسى!!!
والحل المفضل لدى الأغلبية أن تكون نطعا، والنطاعة هي أن تتجاهل الإحساس أو تفقده، وعند المصريين الأقدم كان: "الإحساس نعمة"، ولكن يبدو أنه من كثرة الأوجاع صار نقمة، والنطاعة صارت هي الحل، وهي الكنز الذي لا يفنى حتى لا تتوجع!!
ونطاعة الأفراد والمؤسسات والجماعات، ونطاعة الحكومة، وأصحاب السلطان، ونطاعة الفرق والطوائف والقبائل، ونطاعة كل ناعق كذاب سميك الجلد يتكلم بجهل أو جبن فيخدع الناس أو هم أصلا لا يحبون من يوجعهم بالحقائق بينما يعشقون الدروشة والمسكنات والفرجة والشكوى والقليل من العمل والتفكير، وعدي يا ليلة!!!
كيف يمكن أن تتعامل مع كتل بشرية فاقدة للعقل والإحساس؟!
ما هو أثر التفكير أو الفكر أو التخطيط أو صرخات الإنذار في هكذا جمهور؟! ما قيمة الكتابة الصحفية أو الأكاديمية وسط كل هذا الجهل؟!
هذا الذهول القومي، والبلاهة العامة المقصودة والمتعمدة لأن من يفهم اليومين دول "بيتعب" قوي، وتلك الغيبوبة الشائعة!!
هذا الهطل والخبل والضجيج غير المنتج إلى أين يقودنا؟!
لقد كتبت منذ مدة عن مصر المريضة نفسيا وجسديا المحتاجة إلى "كونسولتو حكماء"، وكتبت عن بناء "الإنسان أولا ودائما" وكتبت وأكتب في الداء والدواء، ولن أمل (من الملل)، ولو مللتم!!
هذا البلد العظيم الرائع منهار يتداعى ملقى على قارعة الطريق ينزف ويتبدد كما شبابه وفلذات أكباده على النواصي والمقاهي وسواحل المتوسط جثث غرقى، أو آخرون يتأهبون!
ليست عبارة "ممدوح إسماعيل" وحدها هي التي غرقت عنوانا على انهيار كل شيء في الأداء العام، والضمير العام، بل مصر كلها غرقت وتغرق، ونحن نتفرج: البعض يتحسر، والآخرون أنطاع لا يشعرون، والكل يبحث عن ملاذ لن يجدونه لأنه لا مكان للمرء إلا وطنه!!
مصر تحتاج إلى بناء كما علاج، وهي مهمة تقوم على أكتاف من ينتدبون أنفسهم لها، إذ لا يدعو أحد أحدا لهكذا مهام.
واقرأ أيضًا:
على باب الله: البحث عن حكاية/ على باب الله: تنويعات لكسر الملل