ما معنى الامتحان؟ ولماذا توضع الأسئلة؟ ما هدف التقييم؟ تقييم من؟ وكيف؟ إلى أين؟ وقبل ذلك: ما هدف التعليم عامة؟ وما هدف هذا الذي يجري في مصر تحت اسم التعليم؟
زادت حيرتي وأنا أتابع العرض المستمر لمسلسل الدموع والجزع، والتعازي، ورحت أتعجب كيف اشتركت كل الأقلام بلا استثناء (وبينها ما يمثل لي قيمة رائعة) اشتركت في هذا المهرجان الذي نصب للإشفاق على أولادنا أكبادنا التي تمشي على الأرض!! المنطق الذي خطر ببالي ألتمس به العذر لكل من شارك في مهرجان الدموع والجزع، يقول: "والله مساكين، هذا جيل لم يتعلم أصلا، فلماذا نرهقهم بامتحانات ليس لها جدوى في نهاية النهاية، يا راجل سهّل وقل يا باسط".
علم التقييم (الامتحانات من بين ذلك) هو علم، له قواعده، ، ودراسة جدواه، ومتابعته للتأكد من تحقيق أهدافه، وبالتالي: لا ينبغي أن يصبح مجالا لفتوى كل من هب ودب، حتى المدرس النابه مهما بلغت مهارته ونبوغه في التدريس، قد لا يكون مؤهلا لممارسة دور التقييم كما ينبغي.
حدث سنة 1950 أن حصلت شخصيا على 70 % في امتحان شهادة التوجيهية، (الثانوية العامة الآن) أي أنني لم أستطع أن أجيب على 30 % من الأسئلة، أو أجبتها خطأ، أذكر أننا حين ظهرت النتيجة، قبلناها كلنا بلا تعليق، وانتظرنا نتائج قبول الجامعة (لم يكن هناك مكتب تنسيق) وقبلت شخصيا في كلية الطب جامعة فؤاد الأول.
لماذا لم أجزع أنا وأهلي؟ لماذا لم تقم القيامة لصعوبة الامتحانات التي لم يتمكن طالب خائب مثلي من الإجابة على حوالي ثلثها، ثم ها هو يكافأ بأن يدخل كلية الطب الأولى في مصر؟
أظن أن السبب هو أنني وأهلي، مثل كل الناس، كنا واثقين أنه ما دمت قد حصلت على هذا المجموع، فلا بد أن من هو أقل مني أداء واستذكارا سوف يحصل على مجموع أقل، أما من هم في مستواي أو أكثر فسيحصلون على تقدير مثلي وأكثر، وخلاص. كنا غالبا نعرف أن التعليم هو التعليم، وأن الإنسان هو حيوان ناقص، وبالتالي لا بد أن يخطئ ويصيب، فالأسئلة الصعبة هي أسئلة صعبة، وهي للتمييز وليست للتعجيز (كما ندعي الآن)، كانت تلك هي القيم السائدة، نمارسها دون أن نناقشها فهي بديهية على ما يبدو: من البديهي أن الامتحان الصعب صعب، وبما أنه صعب على الجميع فسيتساوى في فرص أدائه الجميع، وحين تظهر نتيجة الجميع، سوف يرضى الجميع بما جرى للجميع دون استثناء.
هذه القيمة يسمونها "العدل" (هل سمعتم عنه؟)، العدل الحقيقي هو الذي يخفف أي صعوبة، هو يخفف الصعوبة الاقتصادية، كما يخفف حتى صعوبات ومصائب الكوارث الطبيعية التي تحل على الجميع دون استثناء.
هذا بالنسبة للامتحانات
لكن هل هدف التعليم هو أن أجتاز الامتحان؟ أم أن له هدفا آخر، وما الامتحان إلى أحد وسائل تقييم استمرار مسار التعليم لتحقيق هدفه؟
حين يصير التعليم إلى ما صار إليه عندنا، تصبح المسألة مهزلة، بلا مهارة تبقى، ولا فكر يتحرك، ولا رغبة في معرفة تصقل، ولا فرحة بمعلومة تمارس، ويصبح الامتحان الذي هو وسيلة لتقييم عملية التعليم، يصبح هدفا في ذاته, الدول المحترمة الناضجة لا تعلم أبناءها ليجتازوا الامتحان، لكنها تعلمهم ليتعلموا فيبنون وطنهم، ويعيشون عصرهم، أما إذا خلا التعليم من هذا وذاك، ثم ابتعدت قيمة العدل كما حدث عندنا في كل مجال، فلا بد أن تنصب مناحات الامتحانات كل عام وكأننا نبكي على ميت مات قبل أن يولد.
نحن لا نعلم ولا نتعلم كيف نواجه الصعب، الحياة كلها صعبة، وليس الحل هو أن نسهل كل صعب، وإلا كيف ننمو بالله عليكم؟ الحل هو أن نتعلم الصعب ونحترمه، كما نستسهل السهل ونفرح به، لكن هذه القيمة أيضا تراجعت، ربما نتيجة لأن أي واحد يتلفت حوله سوف يعرف أن الحياة صعبة على ناس دون ناس، وبالتالي فلماذا أتدرب أنا على الصعب وغيري يسهلون له كل شيء، كل شيء، ليس فقط الامتحانات (دع جانبا الغش)، لكنني أقول كل شيء. (لو سمحت: أطلق لخيالك العنان، ولا يهمك)
إذا اختفت قيمة العدل، وقيمة المعرفة لذاتها، وقيمة مواجهة الصعب كطبيعة بديهية في الحياة، أصبحت الامتحانات بلا معنى إلا إعادة مسرحية معادة تخرج منها كما دخلتها وأجهل، وهكذا فهمت أخيرا سر هذه المهرجانات تجرى في الهوامش هكذا.
ففيم كان الاستغراب؟
نشرت في الدستور بتاريخ 2-7-2008
اقرأ أيضا:
أين الأزمة؟ صعوبة الأسئلة؟ أم نفاق الجميع؟ / تعتعة سياسية: تسويق الإيمان في سوبر ماركت العولمة!! / تعتعة سياسية: قصيدة اسمها: عبد الوهاب المسيري