كان أمس يوماً مرهقاً بحق بكل ما تتحمل اللغة من تعبيرات ومعانٍ، ولكنه ممتعاً معاً لأني بدأت اليوم في استعادة جزءاً من نشاطي وطبيعتي التي افتقدتها طويلاً تحت وطأة الاكتئاب القاتل الذي عانيت منه شهوراً- لا أراكم الله إياه.
كنت أشعر من لحظة استيقاظي في الصباح أنه يوم مختلف بشكل مبهم غير محدد المصدر جاءني هذا الإحساس، وقد كان.
بدأ اليوم في جريدة الميدان حيث واعدني الأستاذ مجاهد السيد سكرتير التحرير الفني المجتهد والمحترم بجريدتي الوفد والميدان، والذي يساعدني بكل إخلاص للإلمام بالجوانب التطبيقية المفيدة لي في بحثي للدكتوراه، دون أن أطلب منه بل هو الذي عرض المساعدة منذ أن تعارفنا في جريدة الوفد وقد رحبت بها لأني لا أزال مثل الغريق الذي يتعلق بقشة في كل ما يتعلق بالإعداد لرسالة الدكتوراه، وقد وعدني أن يقدم يد العون لي سواء في جريدة الوفد أو في جريدة الميدان بسماحة وكرم لم أعهدهما كثيراً مؤخراً في الناس حولي، والعجيب أنه يفعل هذا بحماس شديد على الرغم من أن لديه قناعة راسخة بأن المرأة لا تصلح إلا زوجة وأم، وأن مكانها الطبيعي البيت! معبراً بقوله: "دا أحسن حاجة للواحدة!"
والحقيقة أنه رحب بي وتركني ليقوم بإنهاء تنفيذ الصفحات على الكمبيوتر والذي استغرق ما يقرب من الساعة إلا الربع، وكم كانت سعادتي حين وجدتني أحمل كتابا للقراءة في المواصلات، فبدأت في القراءة مستمتعة باستغلال الوقت بدلاً من الحملقة في الجدران بلا هدف!
الكتاب كان للكاتبة الأديبة الرائعة أروى صالح بعنوان "سرطان الروح" كنت قد اقتنيته من فترة خلال مؤتمر الاشتراكية الأخير المنعقد بنقابة الصحفيين، واللطيف أن الزميلة العزيزة والصديقة الجميلة ناهد إمام اقتنت نفس الكتاب فكانت مصادفة ضحكنا لها.
استمتعت بالكتاب ،فأسلوب الكاتبة سلس وقادر على جذب القارئ للنهاية فلا يترك الكتاب إلا بعد الانتهاء منه، وقد أدهشني جداً وأحزنني معاً أن تموت هذه العبقرية الموهوبة... منتحرة!!
قالت في مذكراتها المنشورة في الكتاب أنها حاولت الانتحار مسبقاً قافزة في النيل بحذائها وحقيبتها، ولكن أنقذها عسكري من الأمن وصحبها لقسم الشرطة معنفاً إياها!
إنه إصرار على الانتحار إذاً يا أروى!!
وكنت قد سمعت عن أروى من زميلة يسارية مخلصة أثناء دراستي الجامعية في أواخر التسعينيات، وكانت تتحدث عن انتحارها في سعادة لم استطع حتى الآن معرفة مصدرها، فما الذي يثير إعجابها في كونها ماتت منتحرة؟!
دعوت لأروى من قلبي أن يغفر لها الله ويعفو عنها إنه عفو يحب العفو.
انتهيت من قراءة غالبية الكتاب ثم جاء الأستاذ مجاهد، وتحدثنا قليلاً عما يمكن أن افعله خلال الفترة القادمة، ثم استأذن مني ثانية لإنهاء الصفحات وأنا اهتف لنفسي ليتني ما جئت في هذا اليوم المشحون بالعمل، المهم انه صحبني لقسم التصحيح بجوار حجرة الكمبيوتر، وهناك دار حديث حول مقتل سوزان تميم وإمكانية ارتباط اسم رجل أعمال مصري شهير بالحادث باعتباره المحرض على الجريمة.
المثير ربما للدهشة أنني لم أكن أعرف من هي سوزان هذه إلا بعد مصرعها بل لم اعرف إلا اليوم حين أخبرني الزملاء في الميدان.
ثم صحبني الأستاذ مجاهد لحجرة الكمبيوتر وشاهدت بعض اللمسات الأخيرة لتصميم الصفحات على الشاشة، ودار بيننا نقاش طويل أفادني كثيراً، وفتح أمامي باباً لم أكن لأطرقه لولا أن نبهني له، فشعرت نحوه بمزيد من الامتنان وشكرته كثيراً ودعوت له أثناء انصرافي على وعد بلقاء في جريدة الوفد الأسبوع المقبل لبدء (الدرس الخصوصي) الذي سيعطيه لي في التصميم العملي لصفحات الجريدة بعد أن أنهيت رسالة الماجستير في التصميم فعلاً دون ممارسة عملية مثل بقية الباحثين الآخرين، ولكنني لا أريد أن أكون مثل الآخرين.
فعشقي الكبير للكتابة الصحفية وممارستي لها من سنة أولى جامعة، فكنت أقدم نفسي للناس باعتباري صحفية منذ الفرقة الأولى بكلية الإعلام جامعة القاهرة!
جعلني هذا لا أتصور نفسي في الجانب الآخر من مهنة الصحافة وهو التصميم الصحفي أو الإخراج، ولكن الوقت قد حان لأفعلها.
أثناء عودتي للمنزل كنت أرتب في عقلي الموعد الذي سأنزل فيه من البيت مرة أخرى للحاق بموعد تصميم صفحات العدد الأسبوعي من جريدة الدستور، ولكن فاجئني خالي بمكالمة يقول فيها أنه قادم في الطريق لزيارتنا، وخالي هذا يعيش في الإسكندرية ويأتي للقاهرة لمتابعة بعض الأعمال باعتباره محامياً بعد أن ترك العمل كوزير سابق، وأثناء هذا يأتي لزيارتنا ونسعد به كثيراً في واقع الأمر إلا أنني شعرت بالضيق لأنه لم يتصل مسبقاً كي ارتب نفسي على هذا، فعدت للمنزل غاضبة وصائحة في أمي المسكينة التي لا ذنب لها: أنا ما ينفعش معايا "أنا جاي لك دلوقتي في السكة"، لماذا لا يتصل مسبقاً؟ قد يأتي فلا يجدني، أو أكون مرتبطة بموعد لا يمكن تأجيله مثل اليوم.
(إذ أنني أعيش مع أمي بمفردنا، وأمي أصبحت حركتها محدودة بعد تزايد حدة خشونة الركبتين لديها ولا يمكن أن تعد طعاماً أو تقدم تحية لقادم أو حتى تفتح الباب بسهولة) لذا يجب أن أكون موجودة في المنزل لاستقبال أي قادم يأتي لنا وخدمته والترحيب به.
ثم أضفت في حزم: اسمعي يا ماما، أنا هانزل وهو هنا، معلش بقى، ما أريد متابعته في الجريدة لا يحدث إلا اليوم ولابد أن اذهب.
أجابت في هدوء وبراءة الأطفال في عينيها (أمي دي سكر): مافيش مشكلة، يا ستي ابقى انزلي... حد ماسكك؟!
كنت أريد إفراغ شحنة ضيقي بأي صورة، لأني أنزعج جداً من الزيارات المفاجئة حتى من أقاربي، فقد أكون غير مستعدة لهذا بأي شكل كان، وقد يبدو هذا قلة ذوق مني أو مظهر من مظاهر الشخصية جامدة المشاعر، أو نوع من التعالي، وإضفاء الأهمية الوهمية عليّ، ولكني لا أستطيع أن أعيش بشكل عشوائي فوضوي فهذا يصيب حياتي بخلل ويصيبني بتوتر شديد وأنا طبيعتي تجعلني متوترة في الحالات العادية فما بالك في الظروف المفاجئة أو الطارئة. وهذا أحد عيوبي القاتلة التي أسعى بقوة لتغييرها، ولعل اليوجا لها دور في هذا.
وأدهشني كيف يتصرف وزير سابق بمثل هذه الطريقة غير المنظمة العشوائية، يبدو أننا كمصريين لا نستطيع أن نكون منظمين بالشكل الكافي مهما بلغنا من المناصب!
وأفرغ شحنة انفعالي فعلاً في تجهيز غداء سريع له، أدهشه وأسعده معاً، وظل يدعو لي بالزوج الصالح، وكأنه سيأتي فقط لأني أجيد الطبيخ!
وطبعا زال كل ضيقي مع حضوره لأني أحبه جداً، وهو يحبني بشكل خاص ومعجب بشخصيتي لدرجة كبيرة، وأنا معجبة بقصة كفاحه وطموحه الكبير الممتد لسنوات طويلة، وكثيراً ما نجلس لنضحك على رأيي غير المتوقع لأحد الأمور التي يطرحها للمناقشة معي أو اجلس استمع إليه وأتعلم من خبرته الواسعة في الحياة.
وبعد أن تناولنا الطعام معاً استأذنت منه، وأنا أعتذر له بشدة وأنا محرجة منه فعلاً، وهو ودعني بالدعاء لي بالتوفيق، بعد أن سألني عن موقع جريدة الدستور وسبب ذهابي لها، ولماذا هذا التوقيت بالذات (استجواب عادي لفتاة مصرية تخرج من بيتها مساءً!) خرجت لمواصلة مسيرة كفاحي، واللطيف أنه تصادف ركوبي مع نفس سائق الميكروباص الذي اقلني من ميدان الجيزة إلى حيث أسكن بشارع فيصل المزدحم أثناء عودتي من جريدة الميدان، والذي حاولت إقناعه في المرة الأولى بالإقلاع عن التدخين، وسط دهشة ونظرات متوجسة من الركاب الآخرين وكأنني مجنونة خرجت لتوي من مستشفى الأمراض العقلية! ارتكب خطيئة كبرى بالأمر بالمعروف والنهي عن النكر!
لذا تذكرت السائق فور ركوبي خاصة وأنه تصادف ركوبي في المقعد الأمامي، وبتلقائية الأطفال هتفت في وجهه: أنا ركبت معاك النهاردة... أنت اللي بتشرب سجاير.. صح؟
ابتسم السائق طبعاً، فأضفت متلعثمة بخجل مبررة جملتي غير المنطقية والتي لا محل لها من الإعراب: اصلي بتكلم مع السواقين كتير لأنهم بيشربوا سجاير وأنا بكافح شرب السجاير.
فاتسعت ابتسامته، وحمدت الله الآن انه لم يكن فظاًَ غليظ القلب وانه لم يفاجئني بعبارات مثل: (خليكي في حالك.. وانتِ مالك؟ ما في ستات بتشرب سجاير). إلا أنني أكون مستعدة جيداً للرد على مثل هذه الجمل المستفزة الهلامية في شكلها ومضمونها.
ودار بيننا حديث عن استغلال السائقين للركاب، وتحصيل الأجرة مرتين منهم وأحياناً ثلاثة، وأن ليس هناك رقابة على السائقين من الشرطة لامتلاك بعضهم بعض هذه السيارات أو امتلاك أمناء الشرطة لها، فأجابني أن الضابط "بيطنش" لأنه يعرف أن الغلاء هو السبب وراء هذا.
إنما أمين الشرطة بيطلب منه فلوس! طبعا رشوة بلا حق.
ولكنه أقسم لي أنه أعطى بنفسه رشوة لضابط من قبل، بل حكى لي قصة مضحكة ومبكية معاً.
كان يمر على لجنة، وكانت رخصته سليمة وليس هناك مخالفة عليه، لكن أمين الشرطة طلب منه 50 جنيه، فرفض، وذهب للضابط الواقف في اللجنة كي يشكو الأمين له، وسأله –كما أقسم حرفياً-: يا باشا هي دي لجنة ولا بتلموا فلوس فردة؟"فردة بلغة السائقين يعني إتاوة"، يا باشا الأمين بيقول لي هات 50 جنيه.
رد عليه الظابط ببرود: طيب ما ادتلوش ليه؟؟!!(لماذا لم تعطيه 50 جنيه؟!)
أطلقت ضحكة مندهشة، فكرر قسمه بالله أن هذا ما حدث، ثم وصلت السيارة لميدان الجيزة، محطتي الأخيرة مع السائق.
وفي الدستور تقابلت مع الزميل العزيز والصديق الجديد محمد هشام الصحفي النشيط بالدستور وموقع بص وطل، واتفقت معه على إرسال مقالات لصفحة الرأي بالدستور الأسبوعي كما كنت أفعل مسبقاً كما طلب مني.
ثم جلست لمتابعة تصميم صفحة ضربة شمس، بحضور مشرف الصفحة الذي قاومت رغبة شديدة في عدم صفعه على وجهه أو على الأقل النظر له بقرف، لم أشأ أن تسوء علاقتي بأحد في الجريدة، ولكنه حقيقة كان يستحق هذا بجدارة.
وأثناء عودتي من الدستور تلقيت مكالمة من زميلي السابق بأكاديمية أخبار اليوم حسام إلهامي والمدرس المساعد الآن بكلية الإعلام بالجامعة الحديثة، كان يخبرني بإمكانية عملي بجامعة 6 أكتوبر، فأخبرته أني تحدثت مع عميد الكلية هناك وقال أنهم يطلبون مدرس وليس مدرس مساعد، يعني لابد من الحصول على الدكتوراه أولاً، فالماجستير وحده لا يكفي (بلد شهادات صحيح!)، الدكتوراه التي أرهقتني وهي لا تزال وليدة في مرحلتها الأولى.
وعدت للمنزل منهكة طبعاً بعد يوم طويل، إلا أنني استطعت تصفح القنوات الفضائية الغنائية التافهة وحملقت فيها بذهول لأني لا أشاهدها في المعتاد، وهالني طبعاً ما شاهدت من ألوان وأشكال الفن الهابط و"العهر كليب" الذي تروج بضاعته هذه الأيام للأسف. وهي عادة تبدو بلهاء في نظر الكثيرين أنه بعد مجهود كبير أبذله سواء جسدي أو ذهني أبحث عن مشاهدة أو سماع "أي حاجة هابطة"، لذا احتفظ على كمبيوتري بملف لشعبان عبد الرحيم وأغاني أخرى مجهولة المصدر!
كوب لبن دافئ وكتابة هذا المقال، وبعض القراءة وحديث حميمي مع أمي الحبيبة استمر حتى الساعة الخامسة صباحاً أنهت يومي.
فإلى يوم جديد ويومية جديدة
لكم مني كل الحب والتقدير
والسلام عليكم
واقرأ أيضًا:
الناس جاعت / يوميات ولاء: أنا وبوش ورايس! / يوميات ولاء: أنا والنيل وقصة حب خالدة