".. كان يوما عبقا برائحة التاريخ والأزلية، حلمت أنني أسير في حقول المشمش، رائحته الطيبة تمسني مسًّا، ونوّاته البيضاء تحوم من حولي كفراشات نورانية، وحينما استيقظت، كان الفرح يسرى في كياني"..
"و... وفي الصباح أخبرني صديقي أننا سنذهب إلى عزاء شهيد فلسطيني.."
"..جاء مجلسي إلى جوار عجوز من أتباع الشيخ عز الدين القسام (رحمه الله).."
"..... صمت العجوز قليلا ثم تحرك :انه جبل قديم من جبال فلسطين.."
"حين خرجت من المستشفى تساءلت "هل تموت الفروسية بموت الفارس..هل تموت البطولة باستشهاد البطل؟"
وهل يختفي الصمود إن رحل بعض الصامدين..؟
..........................
هذا بعض ما كتبه عبد الوهاب المسيري لمقدمة موسوعته (اليهود واليهودية والصهيونية) وهو يهديها إلى أبي سعيد: خالد الحسن..
أنهى عبد الوهاب المسيري حياته القصيدة، حين انتقل راضيا مرضيا إليه، أوقفني ذهابه وقفة أخرى أمام الموت: ذلك الشعر الآخر (كما قال أدونيس في رثاء صلاح عبد الصبور) فأدركت أكثر ماهية الشعر.
هكذا فعلها المسيري
أول ما تعرفت عليه شاعرا (بمنطقي الخاص) كان ذلك في أواخر سنة 1973 (سنة الحرب العظيمة) وكان معه ابنته نور وابنه ياسر، وهو يشترك مع ابنته وابنه في قرض شعر بالانجليزية (على ما أذكر) هو يقول شطراً (أو لعله يعزف نغمة) فيكملها ابنه، أو ابنته أو بالعكس.
فرحت فرحا شديدا بهذا الإبداع الجماعي، وعرفت نوعا آخر من الشعر. عرفت بعد ذلك أنه يكتب الشعر، ويكتب للأطفال، لم تتح لي الفرصة أن أقرأ هذا وذاك، وإن كنت قد أرسلت "حالا" لاقتناء بعض ذلك.
الذي أكتب عنه ليس شعره، وإنما قصيدته التي هي رحلته الزاخرة بنبض الحياة، والتي انتهى "آخر/ أول" بيت فيها منذ أيام: "عبد الوهاب المسيري" القصيدة/الحياة.
لم أعرفه صديقا برغم ما أتاحه لي أخي الصديق أ.د.محمد شعلان في تلك الفترة الباكرة عقب عودتهم في أوائل السبعينات من بلاد العم سام، عرفني به وبالمرحوم أ.د. كمال الأبراشي والسفير تحسين بشير، صاحبت الثلاثة عن بعد ولم ألتق د. المسيري بعد ذلك إلا بالصدفة في ندوة منذ عام وبعض عام عقدت في كلية الاقتصاد والعلوم السياسة عن "الحوار بين الحضارات" وفوجئت به يسألني بعد إلقاء محاضرتي السؤال الذي كنت أحب أن أسمع إجابته منه، وحين ظل الطريق مفتوحا بيننا لكل الاحتمالات، شعرت أن هذا الرجل القصيدة ينبض شعرا.
كان قد تولى قبل أسابيع مسئولية حركة "كفاية"، وكان حاضراً تلك الندوة وتحت إبطه تلك السنادة الطويلة كساق ثالثة ينقلها في خفة رشيقة تؤكد لي عزيمته وقوته وهو يتولى هذه المسئولية دون أن تعيقه إعاقته
وحين امتُحن امتحانا صحيا أصعب، وسافر للعلاج، وعاد في إفاقة واعدة، وصرّح بفضل الله وقوة اليقين أنه استعاد صحته، اطمأننت بلا تردد، لكن يبدو أنه غيّر رأيه وعدّل النهاية، وإذا به يكتب آخر بيت في القصيدة منذ أيام.
فهل نحسن قراءتها؟
وهل نعرف كيف تكون الحياة نفسها شعرا؟ وكيف يكون الشعر هو حلم التغيير على أرض الواقع؟ وكيف يكون الحلم هو الواقع الآخر.
إن فرط تفهمي مؤخرا للموت والشعر بعيدا عن القبر والنَّظْم، جعلني أستقبل خبر رحيله بأنه البيت الأول في قصيدته الأخيرة، قصيدتنا الجديدة.
تساءلت: إذا كنت قد صالحت الموت، كما أدعي فما الذي يزعجني وأنا أعيش مفاجآت الفقد هذه.
نعم! لماذا كل هذا الانزعاج؟
لكن هذا هو ما حدث، ويحدث
أستغفر الله العظيم.
حين كنت أتابع قراءه حياته قصيدة عن بعد، كانت آلامه تصلني دون علمه، فأدعو له وأشكره، لأختم تحيته –لا رثاءه- (بعد أن وصلني ديوانه حالا)، مقتطفا شعره من قصيدة بعنوان: "أغنيةٌ للطفلة العنقاء، قبل أن تنام في الليلة الأخيرة" يقول فيها:
.......
.......
"كان الفرسُ – يا صغيرتي- يسيرُ على الإسفلت الساخن
مطأطئَِِ الرأس
يجرُّ العربة.
على جسده كانت تمر العجلاتُ.
تدور وتدور وتدور،
إلى أن تصل إلى أذنيه ثم فمِه،
فيبلعُها ولا يبوح.
كان يسير بجوار السيارات الرتيبة
يَشَمُّ الدخَانَ والضجيج.
وعند إشارة المرور
كان يقف ذليلاً
يتلقى السِِّياط ويَمضُغ العلفَ الرتيب.
.......
.......
وحين ارتطمَ بالسور
صرخ – يا صغيرتي- في صمت،
سقطَ على الأرض،
نزفَ دمُه
ثم أغمض عينيه.
ولكنني – ذلك المساء- رأيتهُ يرتادُ السُّحُب"
.......
.......
****
سلاما يا سيدي سلاما
صاحبتك السلامة يا سيدي.
نشرت في الدستور بتاريخ 9- 7 – 2008
اقرأ أيضا:
الامتحانات، وقيمة اسمها / خمس ليالٍ في المنامة مع المسيري / البروفيسور المسيري.. مفكر القرن (3) / جدوى الكتابة: بين دموع الشعب ونفاق الحكومة