البروفيسور المسيري.. مفكر القرن (3)
الإنتاج الفكري للمفكرين والمثقفين والباحثين لا يمكن أن ُيقاس بالجانب الكمي، بل بنوعية الإسهام ودرجة العمق فيه ومستوى الابتكارية في نتائجه ومصطلحاته وأدواته التحليلية والمنهجية، وعلى الرغم من ذلك فإن كمية الإسهامات لها دلالات خاصة ولاسيما إن كانت مقرونة بالثراء والتنوع المشدودين لقضايا محورية معينة في بناء فكري تراكمي، نقول ذلك ونحن بصدد التعريف المكثف بإسهامات مفكر القرن الدكتور عبد الوهاب المسيري، فقد خلّف الدكتور المسيري كتباً وأبحاثاً ودراسات ومقالات، وكان أول كتبه المؤلفة في عام 1970م حيث وضع كتاباً مختصراً باللغة الإنجليزية بعنوان Israel, Base of Western Imperialism (إسرائيل - قاعدة الاستعمار الغربي)، ونشرته جمعية دعم التحرر في الشرق الأوسط في نيويورك، ثم أصدر الدكتور المسيري كتاباً آخر بعد نحو سنتين بعنوان: نهاية التاريخ - مقدمة لدارسة بنية الفكر الصهيوني وذلك في 1972م، أي قبل عشرين سنة من صدور كتاب فوكوياما الشهير (1992م)، غير أن المفكر الإنسان المسيري -وعلى النقيض من فعل فوكوياما- وضع كتابه للتشنيع والتقبيح لكل من يمارس اغتيالاً للتاريخ كي يعيد تشكيله وفق أهوائه ونزواته حتى لو كان ذلك على حساب علمية التاريخ وإنسانيته، وقد مارست الفلسفات الفاشية ألواناً من إيقاف التاريخ تماماً كما يفعل الصهاينة في فلسطين، وقد عالج المسيري مسألة الحلولية وهي -بحسب تعريف المسيري- إلغاء المسافة بين الخالق والمخلوق بحيث يصبحان جوهراً واحداً، ومن ثَمَّ يستحيل التجاوز، وتسود الحتميات، وتُصفَّى الثنائيات، وتصبح الظواهر ذاتَ بُعد واحد، ومؤدى ذلك سيادة الواحدية على حساب الثنائية والجدل والتدافع، ويؤكد الدكتور المسيري في أكثر كتبه على خطورة النظرة (الواحدية) أو النماذج (الاختزالية) في فهم وتفسير الظواهر.
ولئن تحدث الأكثرية من المثقفين والكتّاب عن السبق الكبير الذي حققه مفكر القرن في عمله الموسوعي المذهل عن (اليهود واليهودية والصهيونية) باعتباره الإسهام الفكري الأهم له، فإن لذلك مسوغاته ولا شك، فهو عمل بحثي وفكري مدهش، غير أن الإسهام الأهم - في نظري- الذي ُيحسب للدكتور المسيري ليس (موسوعته العلمية) بل (موسوعيته المنهجية)، فالموسوعة العلمية تعكس نتاجاً بحثياً علمياً ذا طبيعة (سكونية) في شكل نتائج وخلاصات تجاه قضايا محددة، وكثير هم أولئك الذين يطيقون القيام بعمل موسوعي سكوني، أما الموسوعية المنهجية فتشير إلى قدرة (ديناميكية) يتمتع بها الباحث أو المفكر يتجاوز بها مجرد إنجاز موسوعة علمية إلى تأسيس منهجية وإطار مفاهيمي يتمكن الآخرون من خلالها من إنجاز موسوعات علمية دقيقة وفق منظومتهم الثقافية مع الانتباه النشط للتحيزات الصريحة والكامنة النابعة من الذات والآخر على حد سواء؛
وبعبارة مختصرة يمكن القول بأن المسيري لم يعطنا موسوعة واحدة بل عوّدنا كيف نبني موسوعات في مجالات اهتماماتنا المختلفة، ويعني ذلك بالضرورة أن الدكتور المسيري أدخل (مناهج تفكير جديدة) في الأجهزة المعرفية العربية والإسلامية، بل إنه يمكننا الذهاب إلى ما هو أبعد من هذا القول، فالمنتجات المنهجية والفكرية التي أنتجها المسيري أفلحت في صناعة (لحظة تفكير فاصلة) للعقل العربي في فضاء الفكر والعلوم الاجتماعية والإنسانية من خلال قدرته المذهلة على نحت (المصطلحات الانعكاسية) وبناء (النماذج الإدراكية) و(النماذج التفسيرية) التي تتجاوز حدود (الوضعية) الضيقة باختزاليتها الكمية وتجريبيتها الشكلانية لتصل إلى تخوم (النماذج التركيبية) ذات القدرة التفسيرية العالية (نماذج أكثر تفسيرية) والمحدودة (نماذج أقل تفسيرية) -بدلاً من وصفها بالذاتية أو الموضوعية- في ضوء الإحاطة المنهجية الفائقة للتحيزات التي يغص بها المشهد أو الظاهرة المراد تحليلها وتفسيرها ومن ثم فهمها، وهذا هو الشيء الرئيس الذي دعاني لاعتبار الدكتور المسيري (مفكر القرن الخامس عشر الهجري) -وهذا القرن مرشح لمفكرين آخرين بطبيعة الحال-، وتعد السمة التي بموجبها يتمكن مفكر من إدخال أدوات تفكير جديدة للعقل في محيط ثقافته وإطاره الحضاري سمة محورية لما أسميهم ب (مفكري المستوى الثالث) وهم الذين ينشطون في نقد وتقييم طرائق أو منهجية التفكير التي يستخدمونها هم ومفكرو المستوى الثاني عند تعاطيهم مع المشكلة.
ومفكرو المستوى الثالث طبقة من المفكرين الذين توفروا على قدرات فلسفية هائلة تمكّنهم من تقييم المنهجية العلمية ونقدها فلسفياً وبيان عوارها منطقياً، ليس ذلك فحسب بل وفي تطويرها إجرائياً... ويتسم مفكرو المستوى الثالث بمهارة عالية في التعامل مع التعقيد والغموض، لا بل ينجذبون إلى الانغماس في التعقيد والاقتيات على الغموض وهم يعالجون القضايا والمشكلات المعقدة؛ فيجدون لذة كبيرة في هضم التعقيد ثم إعادة تفتيته إلى مكوناته الأساسية، ويعود ذلك إلى قدرتهم الفائقة على (إزاحة) البيانات والتفاصيل غير المهمة (غير الحرجة)؛ ليبقوا على البيانات والتفاصيل الحرجة فقط، وهذا يمنحهم قدرة على المضي قدماً في أغوار التعقيد ليصلوا إلى أعلى درجة ممكنة من العمق، وبعد أن يظفروا بالجوهر لا َيبقون داخل أحشاء التعقيد بل يخرجون إلى السطح وهم يحملون (العمق البسيط)، ثم يحيلونه أو (يكبسلونه) بتفكيرهم الخلاّق وقدراتهم الابتكارية إلى: مصطلحات عميقة تنضاف إلى أدوات التفكير المتاحة؛ أو نموذج أو نظرية تتسم بالعمق النظري والبساطة في بنيانها وإطارها المفاهيمي وربما الإجرائي أيضاً... وقدرة مفكري المستوى الثالث على الظفر بالعمق البسيط تضفي على طروحاتهم قدراً كبيراً من الكارزمية والتي ُتغري الكثيرين لتبني مصطلحاتهم ونماذجهم ونظرياتهم!) (السلفية والليبرالية، الكاتب، ص 158، 187-188).
والنقلة الفكرية -أو البارديم بحسب مصطلح توماس كون- للعقل العربي التي أومأت إليها مؤكدٌ أنه لا ُيمكن أن تحدث بشكل تلقائي أو في وقت قصير، فحركية الأفكار وتراكميتها تفرض حتمية تمتعها بأوقات حضانة تكفي لتلقي الأفكار وفرزها وهضمها واختبارها وتقييمها ونقدها في ضوء المنظومة الفكرية والخرائط المعرفية للمتلقين، غير أنني أجزم أن التفكير العربي بعد عقد وعقدين وثلاثة سيكون أكثر عمقاً وقدرة على الولوج إلى مناطق جديدة؛ سواء كانت في المجالات التي اشتغل عليها المسيري بشكل مباشر أو في مجالات جديدة تماماً، وقد حدث مثل ذلك أو قريب منه إزاء نتاج أحد أبرز مفكري القرن الرابع عشر الهجري وهو الأستاذ الكبير مالك بن نبي، وربما تكون مثل هذه النتيجة الجريئة التي نقررها هنا يعوزها البرهنة المنهجية المدعمة بالشواهد والتطبيقات، غير أن ذلك يخرج عن نطاق هذه المقالات المختصرة.
وبالرجوع إلى إسهامات المسيري نجد أنه ألف وترجم ما يزيد على 60 كتاباً -منها ثلاثة كتب باللغة الإنجليزية- في فترة تزيد على 40 سنة، طبعاً هذا بخلاف الكتب التي فرغ منها أو شبه ولما تصدر بعد، فالعدد مع تلك الإصدارات قد يلامس 70 كتاباً أو يزيد، والحقيقة أن ثمة صعوبة بالغة لتصنيف كتب المسيري نظراً لتشعبها من جهة وتداخل مسائلها من جهة ثانية وللطبيعة الابتكارية التي اتسم به إنتاج المسيري من جهة ثالثة، الأمر الذي يفتح أبواب التصنيف أمام اعتبارات ومستويات متعددة ومتداخلة، غير أنه لا يعنيني في هذا السياق غير الاهتداء إلى تصنيف يقرّب كتب المسيري للقراء ويعرفهم بها، وهذا لا يعني أنني لا أحفل بالأسس المنهجية أو الأبعاد المنطقية في التصنيف، وقد يكون ذلك ضرباً من الاعتذار المنهجي الخفي الذي اعتدنا على تقديمه بمناسبة وبغير مناسبة، ولعل من أيسر التصنيفات التي تعين على تتبع إسهامات المسيري أن نقوم بتصنيفها إلى سبعة أقسام هي:
القسم الأول: الفكر اليهودي والحركة الصهيونية، وقد حظي هذا القسم بجل اهتمام المسيري، وقد ترك لنا ما يقارب 34 كتاباً، أبرزها على الإطلاق الموسوعة الضخمة التي تقع في ثمانية مجلدات وقد صدرت عن دار الشروق في 1999م، وقد اختصرها فيما بعد في مجلدين (من مطبوعات دار الشروق أيضاً في 2004م)، وقد كانت الرحلة قد بدأت في عام 1972م حين أخرج كتابه (نهاية التاريخ)، وبعدها بثلاث سنوات أي في عام 1975م أصدر كتاباً مهماً يعتبر نواة الاهتمام الموسوعي للمسيري حول الصهيونية واليهودية وكان بعنوان (موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية: رؤية نقدية)، ولعل النتيجة الأبرز في ذلك الكتاب اكتشاف ما يسميه المسيري ب (جيوتية مصطلحات الصهيونية)؛ أي تفردها بمعانٍ خاصة تفترق فيها عن المعاني المعجمية المتعارف عليها، فكلمات كالشعب والحزب لها معانٍ (صهيونية) شديدة التفرد، ولعل هذا من العوامل الرئيسة التي حفّزت الدكتور المسيري على تجديد ذلك الكتاب وتطويره في رحلة توقع أن تستغرق نحواً من سنتين وإذ بها تطوقه بنحو ربع قرن من الزمن، فقد اكتشف حينها أنه يحتاج إلى مستوى أعمق من التفكير يتجاوز مستويات التفكيك لما هو قائم إلى التأسيس لرؤية جديدة تحمل بديلاً للتعامل مع المشكل الصهيوني في أطره التاريخية والمفاهيمية والثقافية والسياسية والاقتصادية.
وخلال هذه الفترة صدرت له عدة كتب في هذا المجال منها ما يلي: (الأقليات اليهودية بين التجارة والادعاء القومي، 1975م)، (أرض الوعد: نقد الصهيونية السياسية، بالإنجليزية، 1977م)، (العنصرية الصهيونية، 1979م)، (الأيديولوجية الصهيونية: دراسة حالة في علم اجتماع المعرفة، جزأين، 1981)، (الانتفاضة الفلسطينية والأزمة الصهيونية، دراسة في الإدراك والكرامة، 1987م)، (هجرة اليهود السوفييت، منهج في الرصد وتحليل المعلومات، 1990م)، (الاستعمار الصهيوني وتطبيع الشخصية اليهودية، دراسات في بعض المفاهيم الصهيونية والممارسات الإسرائيلية، 1990م)، (أسرار العقل الصهيوني، 1996م)، (موسوعة تاريخ الصهيونية، 1997م)، (الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ، رؤية حضارية جديدة، 1997م)، (اليد الخفية، دراسة في الحركات اليهودية الهدامة والسرية، 1998م )، (اليهود في عقل هؤلاء، 1998م)، وقد واصل الدكتور المسيري رحلته في الفكر الصهيوني حتى بعد إصداره للعمل الموسوعي الكبير مما يؤكد محورية هذه القضية في تفكير المسيري، فقد أصدر عدة كتب في السنوات الأخيرة منها (مقدمة لدراسة الصراع العربي- الإسرائيلي، جذوره ومساره ومستقبله، 2002م)، (انهيار إسرائيل من الداخل، 2002م)، (من الانتفاضة إلى حرب التحرير الفلسطينية، أثر الانتفاضة على الكيان الإسرائيلي، 2002م، ويعتبر توسيعاً وتحديثاً لكتابه عن الانتفاضة في 1987م)، (الإدراك الصهيوني للعرب والحوار المسلح، 2003م)، (الصهيونية والحضارة الغربية الحديثة، 2003م)، (البروتوكولات واليهودية والصهيونية، 2003م)، (التجانس اليهودي والشخصية اليهودية، 2004م)، (الصهيونية وخيوط العنكبوت، 2006م).
ومن الملاحظات المهمة التي يمكن تسجيلها في هذا التحليل المختصر أن إسهامات الدكتور المسيري في هذا المجال تأتي في سياق تفاعلي مع ما يعتمل في الساحة الفلسطينية وما يحيط بها ويؤثر بها من عوامل داخلية وخارجية؛ فلم تكن بواعثه أو محفزاته على الكتابة تنظيرية أو علمية بحتة، بل لها طابعها السياسي الديناميكي، فمثلاً نجد أنه قد أخرج كتاباً مهماً عن الانتفاضة بعيد ولادتها عام 1987م، ثم طور هذا الكتاب في مرحلة تالية كنوع من التعاطي الذكي والدفع التعبوي لها أيضاً، فهو لم يكن مفكراً فحسب، بل هو مناضل ومصلح كبير.
ونواصل سيرنا وقراءتنا في مكتبة مفكر القرن الدكتور عبد الوهاب المسيري في مقالات قادمة.
ويتبع >>>>: البروفيسور المسيري.. مفكر القرن(5)
اقرأ أيضاً:
متى نشخِّص الثقافة؟ / مدننا وتنشيط ذاكرتنا الجمعية!