كلما هممت بكلمة شكوى أو نقد أو تشريح لتخلف أراه تذكرتها بوجهها المستدير المبتسم، وصوتها الهادئ المعترض: كفاية تفكيك، وقل لنا نعمل إيه؟!...... بينما لا أجد مهرباً، فالغباء يحيطنا من كل جانب!!!
نحن كقطع لعبة "البازل"... لوحة ضخمة ممزقة ومبعثرة، ومحدثتي تجلس أمامها تضع يدها على خدها وتنظر لي متسائلة ومتحسرة: تقدر تقولي نعمل إيه في الورطة دي!! عادي... زي أي "بازل"!!!
تكتب وأكتب، والكتابة في حالتنا مجرد فضفضة أو تنفيس أو رسائل لا تصل أو يقرأها جمهور مشلول أو حائر تائه يجلس في أحسن الأحوال – أمام لعبة أو لوحة "البازل" المبعثرة، ويقول: نعمل إيه؟!!
أحاول أن أشرح لها أن الناس تردد وتكرر بوعي أو بغير وعي أن هناك مرضاً مستفحلاً أو أعراضاً مزمنة، ولكنها غالباً لا تعرف أصول الداء، وبالتالي مقدمات الدواء، ومحاولة الحفر في التربة بحثا عن الجذور، أو النبش في الذاكرة لاكتشاف البدايات، ومتابعة الخيوط، ورسم الخرائط كما علماء الأركيولوجيا، وهو عمل مرهق جدا ونادر في مجتمعاتنا، إضافة إلى وصف الألغام والعقبات في طريق أي نية للإصلاح، هذا كله جهد نحتاجه، ولا يعد تفكيكا، ولا قيمة بالمقابل لمقترحات أو حلول يكتبها هذا أو ذاك مع هكذا جمهور!!
بل الكتابة نفسها صارت شيئا سخيفا إذا ظن صاحبها أنه يمارس عبرها تغييرا أو تأثيرا على جمهور القراء، تلك الأوهام ينبغي أن تنقشع، حياة الناس تسير وتتعدل بتوازنات قوى وبمؤثرات أخرى عندهم وأقوى ثقلا من الأفكار والكتابات، وبالتالي لم يعد كافيا ولا معقولا ولا مفهوما ولا نبيلا ولا ثوريا ولا جذريا أن يتصور أحد ما أنه يقوم بدور ما لأنه يؤمن بأفكار ما، ويمارس التأثير والتغيير عبر نشرها أو الدعوة إليها!!
الأوضاع تسير من سيئ إلى أسوأ، وجماعة من الناس تمارس الكتابة ويحسبون أنهم يفعلون شيئا ضد التيار، وضد السلطة، وضد الأمر الواقع، والحقيقة أنهم يقدمون للسلطة وللأمر الواقع أكبر خدمة حين يعطون انطباعا بأن هناك في الأفق ضوء، وفي وسط الضجة صوت بينما الجهل يزداد، والغباء يستفحل، والتعصب والانقسام يتعمق، وأكثر من ذلك يوما بعد يوم، وطائفة من يكتبون منهمكون في توثيق ووصف وتفصيل ما يجري، وحياة الناس تسير إلى مزيد من الانحدار، ومن يكتب يتصور أنه يتواصل مع الناس، أو يعبر عن نفسه فينقل لهم أو ينقلهم شيئا فشيئا إلى جديد، وكل هذا وهم، والأصدق منه أن يتواضع من يكتب فيقول أنه يكتب لنفسه وأصحابه وعابري السبيل، ويعبر عن أحلامه وأوجاعه، ويمارس الكتابة لأنها متعة أو علاج أو أي شيء يفيده أو يشعر معه بلذة ما، أما التغيير والتأثير عبر الكتابة، أما التعبير عن الناس والحديث باسمهم فهو وهم وكذب!!
وأحاول أن أقول أن التفكيك والتحليل والتشريح يمكن أن يكون بالكتابة، أما البناء والعلاج فلا يكون إلا بعمل وفي عمل على الأرض، ووسط الناس، ولا يمتعني أن أصبح يوما ما جزءا من الزائدة الدودية المسماة بطائفة المثقفين، مع الاعتذار للزائدة الدودية، فمن المعلوم طبيا أن لها فوائد هامة للجسم البشري!!
لكن يمكن القول أن حدا أدنى من الجهد يحتاجه من يريد التفكير في غد أفضل/ حد أدنى من بذل الجهد في قراءة معمقة، أو حوار هادئ، أو استفهام مؤدب بإصرار، أو مواصلة بحث، وترتيب أفكار، وصياغة تساؤلات، وفسح الصدر للاختلاف والقبول بما يتعارض مع ما يظنه بعضنا من ثوابت حياته بينما هي مجرد أعمدة خراسانية يرتكز عليها تخلفنا أو خوازيق منغرسة في أدمغتنا حتى أموت من الضحك والأسى، وأنا أتابع هذه الأمة البائسة التي تحتاج إلى تجديد وإصلاح دون استعداد لأي تجديد أو إصلاح!!
يكفي أن تستمع لأية حوار حول التجديد أو حتى من غير التطرق للتجديد لتكتشف أن الناس تعتبر كل ما سمعوه، ويعتقدون هم أنه ثوابت لا نقاش فيها، وهي تقريبا كل شيء، فمن أين سيأتي التجديد؟! ولا تجديد إلا بتغيير بعض ثوابت!
ولا إصلاح إلا بتغيير سيخسر معه البعض بعض المصالح، وقد يخسرون الكثير من المصالح التي كانت قائمة على خطأ أو فساد أو تخلف، وستفاجأ أنه لا أحد مستعد للتنازل، ولذلك لا يحصل ولن يحصل أي إصلاح لأن الجميع يريد رصف الطريق إلى المستقبل، ولكن شريطة ألا يمر هذا الطريق عبر أرضه هو، إنه الإصلاح عبر الإضرار بمصالح الآخرين!!
الكل ينتظر الكل، ويتلاومون، والدولة شماعة ذهبية لكل الأخطاء والخطايا، وهي أصلا قد رحلت منذ زمن، فلا هي مسئولة، ولا عندها إحساس أساسا، هي في غيبوبة، وربما ماتت تماما، وما زال الناس ينادونها ويلومونها ويحاولون استدعاء شبحها، أو تحضير روح المرحومة!!
والكتاب يكتبون، والجرائد تصدر، وبرامج الفضائيات مستمرة، وكأن هناك دولة فعلا، وكأن هناك ناس فعلا لديها أدنى استعداد للتغيير على أي مستوى، أو أي استعداد للتفكير بجدية، أو دفع أي ثمن لأي مستقبل، والجميع يكذبون!!
يدخلون من أبواب متفرقة إلى نفس المسرح: هذا باب الممثلين وهذا باب الإدارة، وهذه أبواب الجمهور، ويبتاع البعض فشارا وتسالي، وآخرون يضعون الطلاء والأصباغ والشعر المستعار، وتضاء الأنوار ليقوم كل واحد بدوره، والمسرحية مستمرة، والجمهور جزء من العرض، يبكي أحيانا، ويصفق أحيانا، ويستاء أحيانا، لكنه لا يغادر المقاعد لأنه "دافع فلوس"، وشريك في الرواية!!
وحين يلتقط أولاد البلد بفطرتهم سخف الموضوع برمته، وأنهم قد صاروا مسخة ومسخرة، ومجرد "اشتغالة" عند الدولة وحكومتها، وعند المثقفين الكذبة الذين يتحدثون عن معاناة الفقراء، وعند الكتاب وعند برامج الفضائيات، حين فاض بهم الحال، وقرصهم الفقر والعجز، ورأوا الخراب يحيط بهم من كل جانب، ولا أمل لهم ولا مكان، وهم محبوسين في زنازين سفينة تغرق!!
حين غادروا هذه السفينة وقفزوا في المتوسط بحثا عن مواطئ قدم وملاذ آمن، وأرض تقلهم وتقبلهم، وتعتبرهم بشرا، وتعترف بآدميتهم قبل حقوقهم، حين فعلوا ذلك طلعوا في حسابات وتقدير مفتي الديار:"طماعين"!!! في إيه يا مولانا؟! سامحك الله يا مولانا!!
واقرأ أيضًا:
على باب الله: تنويعات لكسر الملل/ على باب الله: حلم الطلوع