كان ذلك منذ عشرين عاما تقريبا: كنت في بوسطن، أزور صديقا لم يتأمرك تماما، وحين اقتربنا من منزله حيّانا ابنه الشاب، بأنه: "هاي"، (لم أكن أعرف بعد لغة: "الهاي"- "ياللا باي"). انطلق الشاب يرطن بالإنجليزية الأمريكاني، مع أن أمه امرأة مصرية من شبرا، وحين طلب والده منه تصويرنا للذكرى، رحّب الشاب، وقال كلمتين بالإنجليزية لم ألتقطهما، فأفهمني والده أنه يطلب أن "نبتسم"، ونحن ننطق لفظ "شييز" Say Cheese ، سألته: كيف؟، قال: قلها وسوف تظهر أسنانك فتبدو ضاحكا، (لم يكن فيلم أحمد زكي قد ظهر بعد) وافقت تأدبا، وحاولت أن أظهر أسناني، فبدت – حين تسلمت الصورة- أنني كشرت عن أنيابي لا أكثر، أخذت أبحث عن كلمة بالعربية مقابل كلمة "تشييز" ربما احتجناها من باب العولمة، فاهتديت إلى كلمة "مِعـِِييزْ"، بعد أن مرت بخاطري كلمات لا تليق.
حضرتني هذه الذكرى، وأنا أتأمل المرة تلو المرة صور ابتسامات زعمائنا، ورؤسائنا، ووزرائنا، أو حتى صورنا مع أعدائنا الأصدقاء الألداء، رحت أتساءل: يا ترى ماذا يقول لهم المصوّرون حتى يبتسموا هذه الابتسامات "النصف نصف" التي هي هي طول الوقت؟ طبعا لمت نفسي، فالابتسامات الدبلوماسية ضرورية للشيء لزوم الشيء، لكن ما هو هذا الشيء تحديدا، الذي له كل هذا اللزوم والإلزام؟
ثم تصادف أنني أعيد قراءة مجموعة قصص ليوسف إدريس، وقد توقفت أطول عند قصة "لغة الآي آي" (وهو اسم المجموعة)، خصوصا وأن رئيس التحرير "أبا يحيى" قد استشهد بها منذ أيام في افتتاحيته هنا، أثناء القراءة: تعاطفت بداهة مع تلك البقايا لذلك الهيكل الآدمي الفلاح المصري العجوز "فهمي" الذي لم يتبق منه إلا مستقبِلات الألم في المثانة المتهتكة بالسرطان يعصره عصرا، لكنني في نفس الوقت تعاطفت مع مضيفه ("الحديدي" الشاطر الناجح جدا) الذي استيقظت فيه شهامته رغما عنه حين آوى بلدياته فهمي متورطا، ثم إذا به يستعيد حقه في الحياة حين يعرف قيمة الألم ومعناه من خلال تقمصه آهات زميله القديم، بديلا عن غيبوبة الموت الذي هو فيه بكل ما حقق من نجاح، رأيت فهمي بهزاله وصدقه وألمه وهو يعاني "..ألم سرطان المثانة حين يزحف مع الليل، حين تبدأ قطرات البول تتجمع" لتكويه كيا، كما رأيت سعادة الحديدي بألمه الشريف الذي تفجر فيه نتيجة تقمصه ألم ضيفه، فاكتشف من خلاله الحياة من جديد..، "..... كل الفرق أنه ليس له حق في التوجع مثله" (مثل فهمي)، "...المقياس الوحيد للحياة هو أن تشعر بها، وأنا لم أشعر بها.. إنني أقضي حياتي كعملية حسابية دقيقة هدفها الوصول.."
توقفت أتساءل: أين كل هذا على الناحيتين، من تلك الابتسامات الرسمية المؤتمراتية الفاترة المصنوعة للتصوير الخارجي؟؟!!"
"الفرح" ليس عكس هذا الألم الذي أشير إليه، بل هو يبطنه!
السعادة هي جزء من هذا الألم الحي، أما ما هو عكس هذا الألم فهي، البلادة، واللذة المنفصلة، والاستسهال، والكذب.
أعرف أن الكتابة عن الألم غير معايشة الألم، وأن "اللي بينجلد غير اللي بيعِـدّ"، لكنني لا أعرف وسيلة أخرى تنقل إليكم، إلينا، إليهم، ما يصلني من مرضاي ومن مبدعينا، وأحيانا من نفسي، عن شرف هذا الألم الخلاق، أتساءل بصراحة: هل يتألم وزراؤنا ورؤساؤنا أصلا؟ متى؟ ولماذا؟ ولمن؟؟ هل من المحتمل، ولو أحيانا، أن يعايش أحدهم بصدق ألم الجوع والمهانة التي يعاني منها جموع الناس؟ هل أنا أحلم حين أتمنى أن يشعر بعض رجال الأعمال بألم الحياة والأحياء، وبألمهم شخصيا، بديلا عن هذا الموت التراكمي الذي يحبسون أنفسهم فيه داخل حجرات التحنيط الترفيهي، المبنية بحجارة أهرامات الشيكات والأوراق المالية؟
حين حذرت من الانسياق وراء استعطاف الحكومة أو تهييج الناس بدموع البنات والأمهات الباكيات النائحات على صعوبة الامتحانات، كنت أحاول أن أنبه إلى خطورة الخلط بين ألم الشعور بالظلم (أهي جت على ناس ناس) وبين حق الناس الأساسي في الألم الشريف الذي يبني ويعلـِّم، إن الوعي بالألم الإنساني، لنا ولغيرنا، هو من أرقى العواطف البشرية، ولهذا أعتب على زملائي أطباء النفس الذين يختزلونه عادة إلى ما يسمونه "الاكتئاب"؟
نحن نلغي شرف معايشتنا هذا الألم أولا بأول: بالاكتئاب الذي يحل محله، أو بالدموع التي تجهضه، أو بالانسحاب الذي يغري بتجنبه (بما في ذلك انسحاب 67، وأيضا الإعلان من جانب واحد عن آخر الحروب، التي لا تنتهي قبل آخر الزمان!!)
شكرا لعمنا الشيخ حسن نصر الله، وهو يذكرنا بشرف الألم، وألم الشرف، في عمق احتفالية استعادة الأسرى.
نشرت في الدستور بتاريخ 23-7-2008
اقرأ أيضا:
تعتعة سياسية: قصيدة اسمها: عبد الوهاب المسيري / جدوى الكتابة: بين دموع الشعب ونفاق الحكومة / تعتعة سياسية: فِـرِسْـكاَ