الكلام لا يكون كائناً حيّاً إلا إذا كان شعراً،
والشعر لا يكون شعراً إلا إذا كان فعلاً بعثاً،
والفعل البعث لا يكون كذلك إلا إذا كان إيقاعاً حيويّاً يترجح بين الثورة والأنغام، إيقاعاً لا يتوقف حتى بعد أن تنتصر الحياة للحياة، تنتصر حتى بالموت.
الموت هو الختام، البدء الرائع لمن حمل الأمانة شاعراً يتخلّق منه وبه كون آخر، كون هو الواقع الأوقع من الواقع، وليس كما كان يناور الشاعر وهو يوهمنا أنه الحلم.
حين رثى أدونيس صلاح عبد الصبور (فصول أكتوبر 1981) قال: "... لا نعود نقوّم الشاعر بتشكيلاته الفنية أو تجزّءاته المرحلية، وإنما نقوّمه بمشروعه كاملاً، بالطموح الذي يحرّكه، بالرؤيا التي يصدر عنها، والأفق الذي يفتتحه، والمعنى الذي يؤسسه".
ثم عاد أدونيس يبكي رحيل درويش في (جريدة الحياة: 11 الجاري) قال: "...كتب شعره كمثل كيمياء تحوّل الموت إلى حركة حية، وتخترع الشطآن حتى للقوارب المحطّمة. وحيثما اغترب، أقام عاصمة للأمل، جاعلاً من الشعر أرضاً أخرى، وسماءً أخرى".
أما محمود درويش نفسه، فكان مِن آخر ما كتب ":(ابريل 2008 «المجلة الثقافية»، تصدر عن الجامعة الأردنية)، ما قاله مصنـِّفاً تشكيلات "النفي":
أما المنفى الخارجيّ فهو انفصال المرء عن فضاء مرجعي، عن مكانه..."
.... أما المنفى الداخلي فهو غُرْبَة المرء عن مجتمعه وثقافته،
إلى أن قال: "... باعتبار الوجود الإنساني كلّه شكلاً من أشكال المنفى، منذ أن عوقبنا نحن أحفاد حواء وآدم بالتاريخ!"
إذا كان الأمر كذلك، وهو عندي كذلك، فقد تدعّم لديّ مفهوم ملأني حديثاً يقول: إن الموت: هو الرجوع من هذا المنفى الذي اضطرتنا إليه ولادتنا، أو خروج جدنا وجدتنا من الجنة، هو الرجوع إلى الحياة فينا وبنا حين يختفى جسد أحدنا فيتلبس وعيه من تبقى منا ممن يحب الحياة كما أحبها أي واحد يعيش شاعراً حتى يكتب آخر أبيات قصيدته على هذه الأرض، بقرار هذا الموت الآخر، ليبدأ قصيدته الجديدة الممتدة التي لا تنتهي.
الإنسان، أي إنسان، لا يموت إن عاش شاعراً، كتب أو لم يكتب بيتاً واحداً، إن كان قد واصل تجدده بالناس وفي الناس، لا ينفصل عنهم، خصوصاً وهم في بؤرة أحزانهم الخلاقة، يمارسون فرحة الولادة المتجددة، ليس بعيداً عن آلامهم الرائعة، ولا عن غنائهم الصدّاح، ربما هذا هو ما التقطه جاري الشاعر إبراهيم دواد (الدستور :الأسبوع الماضي) حين وصف درويش وكيف كان، "...سليل الحزن السماوي الذي جعل كلامه شعراً وصمته شعراً وتراجعه شعراً".
استشهدت كثيراً بقول أدونيس في رثائه لعبد الصبور "... ففي لحظة الشعر، خصوصاً لحظة الموت– ذلك الشعر الآخر... إلخ"، ولم أكن قد عايشت بعدُ بقدر كاف ما أعايشه الآن– بفضل مرضاي وغير ذلك، وأنا بين الموت والشعر والأسطورة والجنس والجنون، أتعلّم مع مرضاي وخبراتي الجديدة القديمة: كيف نحترم الكلمات، بتجاوزها، فتتخلق الحياة بلا وصاية، فهو الشعر".
من هذه الخبرات ومثلها، جعلت اللحظة الراهنة تتعمق في وجداني وأنا أتعلّم سرّ الوجود والجنون والشعر والبعث، وصلني كيف أن الموت هو انتقال الوعي الذاتي إلى الوعي الكوني تناغماً واتصالاً، ليكشف لي صديق، أن ذلك لم يكن جديداً أبداً، وأنه قول موجود في متون هرمس مثلاً، فعرفت أنه موجود في متون كثيرة، حتى لو لم تكتب أبداً.
يا إلهي! المعرفة تتجدد، وقد تتحقق واقعاً، وقد تسبقنا لتصاغ في ألفاظ– في الشعر خاصة- قبل أن نعيشها.
حين كتبت سابقاً كلمات تقول: "(2)... تدقُّ بابي الكلمة، أصدّها.، تُغافل الوعي القديم، أنتفضْ، أحاولُ الهربْ، تلحقنُي. أكونُها، فأنسلخْْ.(3) أمضي أغافلُُ المعاجِمَ الجحافلْ ْ، بين المَخاضِ والنحيبْ.، أطرحُني: بين الضياع وَالرُّؤى، بين النبيّ والعدَمْ، أخلّق الحياة أبتعث، أقولُني جديداً، فتولًدُ القصيدةْ". حين كتبت هذه الكلمات منذ ربع قرن (14/9/1983)، لم أكن متبيّناً حقيقة ما يمكن أن يكون وراء هذه الصورة: "بين النبي والعدم"، ولكن حين عاد محمود درويش من منفاه إلى رحابة المطلق، عرفت أنه لم يعد إلى رام الله، لكنه عاد إلى وعي الكون فينا، وأدركت ما وراء الصورة التي قفزت منى قبل أن تصل إليّ.
إذا كان علينا أن نعترف بفضله، فلا بديل عن أن يواصل كلٌّ منّا معركتنا ضد كل قوى الانقراض التي تحيط بنا، حتى كادت تتغلغل فينا.
لا..، لا "أحب أن أبكي" كما عنون كلمته أدونيس،
أحب أن أفرح حزيناً مسؤولاً، بين النبي والعدم.
ومع ذلك، فالفراق صعب
خاصة هذه الأيام.
اقرأ أيضا:
تعتعة سياسية: إني لو لم أولد مصريا...!! / تعتعة سياسية:.....لوددت أن أكون / استعمال الجسد: في سعار التنافس وقطع الغيار!!