كل أربع سنوات، تقام هذه الاحتفالية المسماة الأولمبياد، فأدعو الله أن يتوب عليّ من رفض ما اتفق عليه الجميع، لكن الله يحبني غالباً فلا يستجيب لدعائي. هذا العام زادت حالتي سوءاً فرفضت حتى مشاهدة حفل الافتتاح، وحين فازت الصين لم أفرح لها مع أنني تمنيت فوزها على أمريكا بالذات في أولمبياد أثنيا 2004، أنا أحقد على الصين حقداً جمّاً، وأتمنى أن تضرب أمريكا في مقتل، تنافساً في كل مجال، لكنني أتمنى أيضاً أن نضربهما معاً لما هو صالح الناس جميعاً، وهو غير هذا الذي يجري استهلاكاً واغتراباً.
بدأ تقليد ما يسمى الألعاب الأولمبية سنة 776 قبل الميلاد، كانت الفكرة هي البحث عن تنافس أرقى بديلاً عن الحروب، على شرف الإله زيوس. هذا ما نسميه في تخصصنا بآليات (ميكانزمات) الإزاحة، والتسامي، ولا تكون الإزاحة ناجحة إلا إذا نجحت أن تحل محل ما هو أكثر بدائية وأشد خطراً، إلى ما هو أرقى حاشية وآمن عاقبة، ولا يكون التسامي محترماً إلا إذا أدى إلى ارتقاء حقيقي محتوياً ما تسامى عنه من غرائز، لا كابتاً إياها. فشلت الأولمبياد في تحقيق أي من ذلك؛ حروب اليوم هي أشد قسوة وأقل فروسية، وأخبث مخابرات، وأكثر ضحايا، وأخفى وسائل، وأعم إبادة، فلماذا نستمر في الضحك على أنفسنا عبر العالم وكأن هذا النشاط الجميل الرائع قادر يوماً ما على أن يحل محل ذلك التوحش البربري الانقراضي الغبي.
علينا أن نظل نرفض الخداع بالحلول الكاذبة مثل الديمقراطية المزيفة والأولمبياد المنظرّة، حتى لو لم نجد البديل الآن، إن الرفض مع الرضا المؤقت اضطراراً غير الاستسلام والتقديس الدائم لأصنام مغشوشة، أما القبول المتألم المؤقت هو الذي يحرك الإبداع نحو الحل الحقيقي، حتى لو تأخر ظهوره مهما تأخر.
... منذ القديم، وأنا أراجع مسألة استعمال الجسد لغير ما خلق له، حتى لو سميّ ذلك إعجازاً أو إنجازاً، كما أراجع مسألة التنافس ومجالاته ومعناه وفائدته، ظللت دائماً أتحفظ على فكرة تنافس الأحياء على مبدأ البقاء للأقوى. إنما البقاء للأنفع لنفسه ولنوعه وللحياة تناسباً وتناغماً مع نبضها على مختلف المستويات: ومازلت -أنهى مرضاي- عن لعبة كمال الأجسام، متضمنة رفع الأثقال، حتى لا يزداد تمركزهم على أجسادهم فذواتهم، دون الناس والطبيعة والكون الممتد.
الجسد البشري كما يصلني كل يوم أكثر فأكثر: (من معايشتي للجنون، والشعر والجنس والموت والحلم) هو شريك رائع في الحوار الإنساني والإبداع والإيمان منذ خلط صُهَيب الإيمان بلحمه ودمه، حتى إنجازات العلم المعرفي الأحدث، بعد أربع سنوات من المحاولة والخطأ، والمعاودة والنظر، وبحلول أوليمبياد بكين، ازددت يقيناً بعلاقتي بالجسد كما خلقه الله، فما عدت أرى نشاطاً إنسانياً فائقاً إلا من خلاله، حتى الروح –التي هي من أمر ربي– ليست نقيضاً له، ومن هنا زاد رفضي لاستعماله للتنافس والتصارع حتى لو أوهمونا أن المسألة هي بديل عن الحروب، ثم يواصلون الحروب بنفس الهمة ونفس التنافس. ليست فقط الحروب الجارية بالسلاح فوق أنهار الدم وكثبان الجثث، ولكنها الحروب الجارية أيضاً على قدم وساق، على يورو ودولار، على بترول وطاقة حيوية من قوت الناس، الحروب قائمة وتتزايد وتتخفى وتستعر طول الوقت، لم يخفف منها، ولا جمّل صورتها أي من هذه المزاعم الديمقراطية والأولمبية.
المفروض أن أحزن لخروجنا من المولد بلا ميدالية (تقريباً)، لكني لم أحزن، ولم أفرح طبعاً، فما دامت هذه هي اللغة السائدةَ، فقد كنت أتمنى أن نتقنها، ثم نستغني عنها إلى أحسن منها، أما هكذا فالخيبة بليغة، وحتى الرمز الدال على أننا نعيش في هذا العالم مثلنا مثل الأمم المحترمة عجزنا عن الحصول عليه.
رفضت مراراً الفرحة بمنظر الصغيرات الفاتنات الرشيقات وهن يرقصن في الهواء رقصات الإعجاز الجميلة في تنافسات ألعاب القوى، كيف تصل بنا شهوة الفرجة والتنافس أن نستعمل أجساد هؤلاء الصغيرات بمثل هذا الامتهان القاسي، لنحصل من خلاله على الذهب (بفارق واحد على ستة عشر من الثانية مثلاً)!! ما معنى هذا؟ ما جدوى هذا للفتاة نفسها مهما فرحت الصغيرة، من أجل ماذا؟ بديلاً عن الحرب؟ لا يا شيخ؟!!
ومع ذلك تمنيت لو كنّا شاركنا في أن نبيع أجساد صغيراتنا لنحصل على الذهب ميداليات، فهذا أفضل وأشرف مليون مرة من أن نكتفي ببيع أجزاء أجسادنا كقطع غيار لمن يملك ثمنها من الأثرياء الذين يتمددون على أرائكهم يتابعون أرقام البورصة والأولمبياد وقوة التدمير وعدد الأشلاء.
نشرت في الدستور بتاريخ 27-8-2008
اقرأ أيضا:
تعتعة سياسية:.....لوددت أن أكون / العودة من المنفى: درويش، ذلك الشعر الآخر / اختبارات الكادر، وانهيار القيم، وجدوى التعليم