في الطائرة القادمة من أمستردام جلستُ إلى جوار شاب سكندري يعيش في هولندا بعد أن سافر إليها منذ عدة أعوام، الزمان كان النصف الثاني من التسعينات، والشاب سافر من الثمانينات، وتزوج هولندية تحضر معه وابنتيها كل صيف، لزيارة البلد والعائلة، وهو سعيد وفخور أن له الآن مطعم أو كافيتيريا يملكها هو وزوجته، وقال لي أن صحبة الأجيال الأصغر تجاهد وتدفع أكثر من أجل أن تغادر مصر، وتجد ملاذا أو موطأ قدم على الضفة الأخرى، وأحلامهم فقط أن يعيشوا في ظروف آدمية، وأن يعملوا ويكون لهم دخل يعيشون منه حياة يفتقدون كل مقوماتها في مصرهم، إذا كانت ما تزال مصر أصلا ملكا لأبنائها!!
موجات وراء موجات بالعشرات والمئات والآلاف يطلع المصريون من مصر إلى كل اتجاه في العالم، حتى إسرائيل عدوهم الأول والأقرب!!
والطلوع في اللسان المصري كلمة متعددة الاستخدامات منها الصعود لأعلى، ومنها الخروج من مكان إلى مكان، وصعود الروح عند المصريين يسمى طلوعا!!... وفي الكتب القديمة أن خروج المصريين من بلدهم هو نذير شؤم، وأنه علامة خطر وخلل كبيرة لأن بلدهم كانت مصدرا للخير طوال قرون متتابعة، والصورة حاليا تشبه سفينة ضخمة تغرق بدون نظام، والكل يصيح طالبا النجدة، والأغلبية ترى النجاة في مغادرة السفينة التي تتداعى وتغوص في بحر ظلمات بلا قرار!!
ولا توجد في مصر جهة إنقاذ من الكوارث، وعامة تضاءل حلم الإنقاذ، وصار وهما يداعب أذهان المغامرين والحالمين، وأحيانا بعض الحمقى ممن لا يرون ولا يعرفون!!!
وصار الحلم العام والمشروع القومي هو الخروج أو الهرب أو الاغتراب أو الطلوع قبل أن يدركك الغرق، أو الحرق، أو انهيار صخرة ضخمة تدفنك تحتها!!
بل إن حلم البعض تواضع وتواضع، وهم في مصر آلاف من البشر، يحلمون بقبر!!!
آلاف المصريين ليس لهم قبر، لأنهم مكثوا في قعر سفينة لم تجتز بهم البحر كما وعدتهم، ولم يجدوا من ينتشلهم أحياءا ولا أمواتا، فبقوا في بطن السفينة، ومنها ينتقلون قضمة قضمة إلى جوف أسماك القرش وغيرها مما تتغذى على هذه الوليمة من أجساد أكثر من ألف غريق مصري في البحر الأحمر!!
تمنى أهل الضحايا أن يروا ذويهم جثثا يدفنونها، ولم يتحقق حلمهم، وفي الدويقة اليوم عشرات من البشر يتمنون أن يروا جثث ذويهم المدفونة تحت الأنقاض، ولن يتحقق لهم هذا الحلم، بعد أن تقرر وقف الحفر للبحث عن جثث، وردم المنطقة كلها لإنهاء الموضوع!!! لا إنقاذ ولا جثث ولا قبور!!
كوابيس منام، وأحلام يقظة: أراني كل يوم أو ليلة في مدينة من مدن زرتها وأحببتها!
أسمع صراخ الضحايا الموؤدة، وأتخيل هولا رآه الذين ظلوا في عرض البحر يقاومون الغرق، ثم طلعت أرواحهم أو من ظلوا تحت الأنقاض حتى ماتوا دون أن يستخرجهم أحد!!
أرقب قومي وقد صار حلم البعض منهم لا أن يكون له في بلده زوجة ووظيفة ودار، ولكن مجرد قبر معروف يزار!!
وحلم القبر ممتنع/ حلم الطلوع من جوف سفينة لم تجد من ينقذها فغرقت بمن فيها ممتنع، وحلم الطلوع من تحت أنقاض انهيار لم يتحرك أحد لمعالجة أثاره، وإنقاذ من تحته أحياءا، ولم يستخرجهم أحد أمواتا، هذا الحلم أيضا ممتنع!!
وحلم الخروج من هذه الحالة العامة المسيطرة من العجز ومواصلة الانحدار والانهيار ممتنع، ولا شيء غير انتظار الكارثة القادمة في بلد يتداعى في صمت وينهار ويغرق، ولا يشتكي لأن الشكوى لغير الله مذلة!!
تذكرت "كيفن كوستنر" في فيلمه الرائع عن الإنقاذ من الكوارث، وفيه نراه وهو يتدرب ويدرب على الإنقاذ ساعات وساعات ليستطيع هو وفريقه مواجهة مفاجآت الطبيعة، وتصورت أننا نحتاج إلى تكوين وتعليم وتدريب على مواجهة حياتنا لأننا غير جاهزين لمواجهة شيء، والمصاعب تتراكم، والكوارث تتوالى!!
نحتاج إلى إدارة مختلفة للإمكانيات المتاحة والموارد والطاقات
إن دولة رحلت، ومجتمع منقسم ومفكك، وأجهزة تنفيذية تآكلت وأنهكت، وقيم وأخلاقيات مفتتة تحت مطارق ومعاول فقر وعولمة وتخلف، هذه المقدمات تسلمنا للضياع، ولا يجدي أن نكتب عنها، أو نرصد تفاصيلها، أو نبكي عليها، أو أن نحكي ونروي ونتلاوم ونندهش، هذه كلها أشياء لا تؤثر ولا تقدم شيئا!!
ولا حلم الطلوع سينفع غير من يلوذ بمحل آخر، ويجد ملاذا هناك، ولكنه لن يوقف الانهيار هنا ولا الغرق ولا سيكون لنا ولمصر أي مصير غير الجحيم الذي يستعر كل يوم أكثر.
طريقتنا في اكتشاف نواحي الخلل والتنبيه إلى الخطأ والثغرات، والتعامل مع المشكلات ينبغي أن تتغير جذريا، نحتاج إلى نقلة سريعة جدا من التهريج المستمر في لوم دولة غير موجودة أساسا إلى بناء وتجميع وحفز أمة ومجتمع ليس أمامه خيار غير أن يتعلم ويستعد ويعمل أو يموت، وليس سوى أن يتقارب ويتحاور ويتضامن بطوائفه وطبقاته وأقوامه، ويتوقف عن الهزل والهدر والخبل، أو سيغرق ويحترق وينهار أكثر وأكثر!!
"إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"
لقد أفسدت السلطة كثيرا، وأصابت بالعطب فرصا كثيرة لاحت، وقيادات كثيرة برزت، وإمكانات كثيرة حتى لا يبقى سواها بفشلها الذريع، وفسادها المريع، وعجزها الفظيع، ولا أمل لنا إلا بالإفلات من هذا الفخ، ولا إفلات إلا بنضج ومصالحات ومبادرات وإبداعات تنازلات وتحولات تاريخية، وخطط سريعة وغير تقليدية... أناديكم وفي القلب غصة ووجع، وفي العيون ألف دمعة تحجرت، وفي الفم كلام كثير!!!
واقرأ أيضًا:
على باب الله: ماشي يا مصر/ على باب الله: الوقوف في الزور