البروفيسور المسيري.. مفكر القرن (4)
وفق التصنيف (السباعي) الذي اقترحته لتتبع إسهامات مفكر القرن الدكتور عبد الوهاب المسيري من الكتب، عرجت في مقال سابق على القسم الأول والذي كان يتمحور حول الفكر اليهودي والحركة الصهيونية، واستعرض في هذا المقال قسمين آخرين:
القسم الثاني: فقه التحيز، يعد نتاج الدكتور المسيري في هذا الجانب من أهم إسهاماته الفكرية والمنهجية على الإطلاق، حيث إنه أعاد تأسيس مدرسة (فقه التحيز) التي شارك في وضع لبناتها الأولى بأشكال مختلفة وأقدار متفاوتة مجموعة من المفكرين الكبار من أمثال مالك بن نبي، ومحمد إقبال، ومحمد حسين الطباطباني، وعلي محمد تقي شريعتي، وإسماعيل راجي الفاروقي، وحامد ربيع، وقد شغل الدكتور المسيري بمسألة التحيز منذ وقت مبكر، ولعل فكرة (جيوتية المصطلحات الصهيونية) -كما أشرنا لها سابقاً- هي الشرارة الأولى في (تفعيل) فكرة (التحيز) في ذهن المسيري وانتقالها إلى حيز الشعور، حينها يشتغل الجهاز المعرفي في التقاط التحيزات الظاهرة وتتبع واكتشاف التحيزات الضمنية، ولقد شجع ذلك الدكتور المسيري إلى الاستمرار في طرح مسألة التحيز ومناقشتها مع المفكرين والمثقفين والباحثين والطلاب، ثم تطور ذلك إلى توجيه دعوات لبعض المفكرين والمثقفين لكتابة أبحاث في مجالات تخصصاتهم، يعمدون فيها إلى الكشف عن طبيعة وأنواع التحيزات في محيط تلك التخصصات وكيفية تجاوز تلك التحيزات؛
وقد توجت تلك الأعمال بعقد مؤتمر (إشكالية التحيز الأولى) في القاهرة في عام 1992م، وقد صدر عن المؤتمر عدة كتب بطبعات مختلفة، آخرها سبعة مجلدات صدرت في عام 1998م، وتعد المقدمة التي كتبها المسيري هي الأهم، وقد جاءت بعنوان مركب (إشكالية التحيز -رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد، المقدمة- فقه التحيز)، وقد تضمنت تلك المقدمة أفكاراً شديدة العمق حول مسألة التحيز شملت مناقشة ماهية التحيز وأنواعه وتمظهراته وإشكالياته في المنهج، وأسست لنوع من (التطبيع) مع التحيز باعتبار جزء منه تحيزاً طبيعياً أو إيجابياً أو واجب الوجود، ومناقشة مظاهر وأسباب التحيزات للنموذج الحضاري الغربي وللنموذج المعرفي الغربي الحديث، كما طرحت تلك المقدمة بعض الآليات المقترحة لتجاوز إشكالية التحيز في العقل العربي والمسلم بما في ذلك التأكيد على (نسبية الغرب) وخرافية مرجعيته المعرفية.
والجزء الأخير من تلك المقدمة، تناول المسيري (النموذج المعرفي البديل)، سماته وملامحه، مشدداً على عدم معقولية الوصول إلى (نظرية شاملة مطلقة)، على حتمية كونه نابعاً من التراث والذي يعكس (مجمل التاريخ الحضاري، الذي يتسع للإنجازات المادية والمعنوية للإنسان في هذه المنطقة، ويشمل ما هو مكتوب وصريح وما هو شفوي وكامن، والنموذج الحضاري الإسلامي نواته الأساسية هي النموذج المعرفي الإسلامي وأساسه القرآن والسنة اللذان يحويان القيم الإسلامية المطلقة والإجابة الإسلامية على الأسئلة النهائية.. والانطلاق من التراث لا يعني النسخ الحرفي لاجتهادات المجتهدين، وإنما يعني استخلاص القواعد الكامنة في إبداعاتهم) (مقدمة المسيري، ص 106 - 107)، وقبل أن يختم المسيري مقدمته وفي الصفحتين الأخيرتين، نجد امتزاجاً عجيباً بين فكري مفكري القرنين -بن نبي والمسيري- فهو يقول لنا: (ونحن لا ندعي أن الغرب مسؤول عما يحدث لنا، فالسؤال عن المسئول يعني أيضاً من هو الملوم؟ وهو سؤال غير مهم بالمرة، ولعله من الأجدى أن ندرس كيف حدث ما حدث، ولماذا حدث؟ وكيف يمكن الإصلاح؟ وبديلاً من الحديث عن الإمبريالية وحسب، يجب أيضاً أن نتحدث عن القابلية للامبريالية على حد قول مالك بن نبي و(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم..
وفقه التحيز -رغم توجهه الإسلامي الواضح- هو فقه لكل أبناء هذه الأمة بأديانهم واتجاهاتهم، أي لكل من يدافع عن هويتنا الحضارية ويرى أنها تستحق الحفاظ عليها. فالإسلام بالنسبة للمسلمين عقيدة يؤمنون بها، وهو بالنسبة لكل من ينتمي لهذه المنطقة النواة الأساسية للحضارة التي ينتمون إليها. ونحن إن لم ننتبه لخطورة الغزوة الحضارية التي تقوضنا من الداخل والخارج وتقضي على هويتنا وعلى أشكالنا الحضارية ومنظوماتنا المعرفية والقيمية والجمالية، فربما قد يتحقق لنا الاستمرار لا ككيان متماسك له هوية محددة وإنما كقشرة خارجية لا مضمون لها. وفقه التحيز هو أحد جوانب إسهامنا في هذه المعركة. والله أعلم (ص 118 - 119). وثمة إسهامات مهمة أخرى في مجال (فقه التحيز) وهي عبارة عن أبحاث المؤتمر الثاني لإشكالية التحيز والذي عقد في القاهرة (فبراير 2007م)، وأرجو أن ترى النور قريباً.
القسم الثالث: مفاهيم ومصطلحات معاصرة، ونطالع أن مكتبة المسيري تتضمن 6 كتب في هذا المجال، ففي عام 1999م أصدر المسيري كتابين صغيرين هما (فكر حركة الاستنارة وتناقضاته) (قضية المرأة بين التحرر والتمركز حول الأنثى) وقد ضمنهما فيما بعد في كتابه المفصل (العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة) الذي صدر عام 2002م والذي يفرق فيه بين علمانية تفصل الدين عن الدولة أو السياسة فحسب (جزئية)، وعلمانية تعزل الدين عن الحياة وترسخ للنسبية المطلقة والمادية المطلقة والرؤية الحلولية وتنسف المرجعيات الدينية والقيمية بكافة أشكالها (شاملة)، ويستعرض آثار العلمانية الشاملة ويلتقط بعض مظاهرها كعلمنة الدين والرؤية والنظريات السياسية والجمالية والأخلاقية وعلمنة الملابس والطعام والجريمة!، وقد خاض المسيري حواراً مطولاً مع أحد أكبر منظري العلمانية في العالم العربي وهو الدكتور عزيز العظمة، وقد صدر الكتاب في عام 2000م عن دار الفكر في سلسلة حوارات لقرن جديد.
وفي عام 2002م أصدر المسيري كتاباً بعنوان (الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان) وقد تناول بشكل متعمق تلك الفلسفة بالشرح والإيضاح لماهيتها وأبرز تجلياتها التاريخية ويحلل على نحو تفصيلي أسباب جاذبيتها ومواطن قصورها وعجزها عن تفسير الظاهرة الإنسانية والتي يبرز أهم ملامحها، ويناقش مفهوم العقل وطبيعة النماذج الكامنة وراءه ويفرق بين العقل الأداتي والعقل النقدي، ويؤكد المسيري في نهاية الكتاب على أن الفلسفة المادية في حقيقتها تعكس (رؤية إبادة) مخيفة. وفي 2003م ألف الدكتور المسيري كتاباً بعنوان (دفاع عن الإنسان: دراسة نظرية وتطبيقية في النماذج المركبة)، وتمحور الكتاب حول ضرورة تجاوز النماذج الاختزالية في تفسير الظواهر الإنسانية والتأكيد على أن تلك الظواهر المعقدة تحتاج إلى مستويات أعلى من التفكير والتحليل والتجريد وذلك من خلال استخدام المنهج التفسيري عبر (النماذج المركبة) التي تعمل على تقليب الذهن في مجموعة العوامل المؤثرة في الظاهرة بما في ذلك العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية في دائرة أشمل تستوعب الأبعاد الحضارية والمعرفية، ويطرح المسيري عدة تطبيقات للمنهج التفسيري في تحليل بعض الظواهر ومنها الماسونية والرأسمالية ومعاداة السامية.
انتهى الحيز المتاح لنا، ولما نفرغ من الإتيان على الأقسام الأخرى من مكتبة المفكر الإنسان.. المفكر الصادق.. المفكر الكارزمي.. عبد الوهاب المسيري، نواصل في مقال قادم.
ويتبع >>>>: البروفيسور المسيري.. مفكر القرن (6)
اقرأ أيضاً:
متى نشخِّص الثقافة؟ / مدننا وتنشيط ذاكرتنا الجمعية!