وقف الناس ينظرون ويتساءلون: لماذا ينفرد هذا المرعى بالذات بالبقر بينما المراعي من حوله كلها مليئة بالغنم؟... بل لماذا تبقى هذه المراعي أصلا بينما تحولت المناطق القريبة والبعيدة إلى مزارع وورش ومصانع وعمارات. ودائما تأتي الإجابة جاهزة عن السؤال الأول: إنه الماء المتوفر في المرعى والذي يسمح بزراعة البرسيم الذي يتغذى عليه البقر، مع أن هذا الماء أصبح شحيحا في السنوات الأخيرة، ولم يعد البرسيم بنضارته كما كان.
ليس هذا هو الغريب في الأمر ، ولكن الغريب فعلا هو تلك العادة التي تحدث عنها الناس وتناقلوها، وهي تخص راعي البقر ويدعى "ثابت"، فقد قرر (وقراره دائما لا يرد) أن يشرب لبن المسمار من كل بقرة تلد ولمدة 27 يوما بعد الولادة على الأقل، ولبن المسمار هذا لمن لا يعرفه هو اللبن الذي ينزل من البقرة عقب الولادة، وكان الرعاة والفلاحون يأخذون بعضه ويصنعون منه ما يسمونه "سرسوبة" وهي نوع لذيذ من "المهلبية". ولا يعرف أحد على وجه التحديد سر غرام "ثابت" بلبن المسمار، ولكن الشائع عموما بين رعاة البقر والريفيين عموما أن هذا اللبن يمنح قوة غير عادية في الجسد ويمنح أيضا صلابة في الرأي، وربما يكون هذا هو السر في تسميته لبن المسمار، إذ لا توجد علاقة بين اللبن والمسمار لو أننا استبعدنا هذا التفسير الشائع. ومما يؤكد هذا التفسير تضخم جسد "ثابت" بعد اتباعه لهذه العادة وتصلب رأيه في كل شيء، وبالمناسبة فإن تصلب الرأي بين أهل المراعي وأهل القرى عموما صفة لها قيمتها فهي صفة الرجال عندهم، وهي تعني أن الرجل لا يخطئ، وكلمته "لا تنزل الأرض"، وإذا كان الرجل العادي لا يخطئ فكيف ب "ثابت" صاحب أكبر قطيع من البقر.
وكان "ثابت" لا يأتمن أحد ممن حوله في أن يحضر له لبن المسمار من الأبقار، لذلك اعتاد أن يذهب بنفسه كل صباح إلى حيث تقف البقرة حديثة الولادة ويمص حلمات ثديها حتى تفرغ تماما من لبنها، وبعدها يصدر صوتا من أعلى ومن أسفل ثم ينطلق منتشيا يدب برجله في الأرض، وهو يشعر براحة هائلة. ولم يفهم الناس قيمة لبن المسمار على حقيقته إلا بعد أن رأوا "ثابت" وقد تضخم جسده أكثر ممن حوله بشكل واضح، فقد ازداد عرضا وإن بقي على قامته القصيرة كما هي. وربما تكون القامة القصيرة هي الدافع وراء إصرار ثابت على هذا الأمر، فهو يدرك حقيقة قصر قامته وكان يخجل منها طيلة حياته، ولهذا فهو يشرب لبن المسمار على أمل أن تطول هذه القامة (هكذا قال له أحد الأطباء البيطريين الذين يأتون من وقت لآخر للكشف على أبقاره)، ولكن الذي يحدث أنه يزداد عرضا وليس طولا، وهذا يجعله أكثر قبحا، بل إن ملامحه يوما بعد يوم تقترب من ملامح البقر ففمه يزداد اتساعا وشفتاه تزدادان غلظة وترهلا، وعيناه تزدادان جحوظا، ولكنه لا يهتم بهذا الأمر، وعموما في المراعي لا يعيب الراعي مظهره، ولكن يعيبه ضعف جسده ولين قوله، وخضوعه لغيره مهما كان هذا الغير، و"ثابت" عموما لا يهتم برأي الناس ولا يعطيهم أدنى تقدير، ولا يصاحب أحدا منهم.
وكان بعض الرعاة العاملين عنده يحاولون التسلل من وقت لآخر لأخذ "شفطة" من لبن المسمار، ولكنه كان يعرف ذلك بطريقته، ويعاقب من يفعل ذلك منهم عقابا قاسيا، أو يستخدم هذا الأمر للضغط عليه لكي يفعل ما يريد بعد ذلك. وقد أصبح منذ فترة يغمض عينيه عن بعض الرعاة ليتسللوا و"يشفطوا" بعض اللبن، وذلك لضمان السيطرة عليهم بما يملكه عليهم من أدلة السرقة والخيانة، أو أنه يفعل ذلك ضمانا لاستمرار ولائهم له. وقد أدى هذا الأمر إلى تشابه في الرعاة مع اختلاف في الأحجام، فكلهم يتضخم بالعرض ولكن يظل طوله كما هو، وأصبح من السهل التعرف عليهم من بين جموع الناس الذين لا يطالون لبن المسمار فملامح الأبقار تعتبر عاملا مشتركا بينهم مهما اختلفت هيئاتهم.
ولم يكن التعرف على من يشربون لبن المسمار بالحجم والشكل والملامح فقط ولكن بما يصدر عنهم من ريح، فقد كان تناولهم المفرط والمتكرر للبن المسمار يؤدي إلى عفونة في بطونهم مع غازات هائلة تخرج من وقت لآخر في صورة انفجار، يتوقف حجمه على كمية لبن المسمار التي تناولها الشخص منهم . والناس قد اعتادوا هذا الأمر ولم يعودوا يتأففون منه كعادتهم، ولم يعد إصدار صوت الضراط (صوت يخرج من فتحة الشرج) مع الرائحة الكريهة شيء يخجل منه، بل كان أكثر الناس إصدارا لدفعات من الضراط هو "ثابت"، حيث يسمع خروج ريحه من مكان بعيد وكأنه بركان وانفجر، وكان أكثر ما يحدث ذلك ويسمعه أهل المرعى جميعهم في الصباح حين يفرغ "ثابت" من مص أثداء البقرات حديثة الولادة ويصدر بعدها صوتين يرتج لهما المرعى :أحدهما من أعلى والآخر من أسفل، وصار الضراط ذو الصوت المرتفع أحد عادات أهل المرعى على الرغم من أنهم كانوا يتأففون منه في الماضي. وأصبح من المعتاد أن يقيموا مسابقات في الضراط يفوز فيها صاحب أعلى صوت وأبغض رائحة، وكان "ثابت" هو راعي هذه المسابقات وغيرها وإن كان لا يشترك فيها ترفعا وحفاظا على الهيبة.
ولاحظت زوجة ثابت ما طرأ على زوجها من تغيرات بعد شربه الدائم للبن المسمار وكانت تشمئز منه من ناحية (شكلا ورائحة)، ولكنها تتقبل ذلك من ناحية أخرى وتفخر به حين ترى الهيبة والمكانة التي احتلها "ثابت" بسبب ضخامة جسده وصلابة رأيه (رغم قصر قامته)، فحاولت أن تشجع أبناءها لتقليد أبيهم، وكان "ثابت" يسمح بذلك في حذر، فهو يخشى كثيرا أن يصبح أحد منافس له في القوة أو الضخامة أو التصلب، حتى لو كان من أبنائه.
أما على مستوى البقر، فقد كان معروفا أن البقرة التي تلد حديثا لا تسمح بسهولة أن يقترب منها أو من وليدها أحد، ويصعب أن يمص أحد ثديها غير رضيعها، وإذا حاول أحد أن يقترب من ثديها "تنطحه" برأسها أو قرنها، ولكن مع تكرار "ثابت" وأتباعه لامتصاص أثداء البقر أصبح هذا الفعل مألوفا، ولم تعد الأبقار تمارس "النطح"، بل أصبحت أقرب إلى الرضا والاستسلام. ومنذ عدة سنوات لوحظت بعض التغيرات على الأبقار الصغيرة التي حرمت من لبن المسمار، فقد وجد أنها تنمو ببطء شديد، وتظهر عليها علامات نقص التغذية من هزال وشحوب، وعلى الرغم من ضعفها وشحوبها وهزالها إلا أنها تنطح بعضها كثيرا، ولا تعرف الطريق بين المراعي، وحركتها تبدو عشوائية وغير منظمة، وأصبحت أكثر بلادة وخمولا وجبنا، وربما تأكل بعضها.
وحين عرض الأمر على الأطباء البيطريين نظروا في استغراب وقالوا: "ربما يكون السبب هو التغيرات المناخية الحادثة في العالم كله بسبب ثقب الأوزون"، وأخذ كل منهم قيمة الكشف عدد من البقرات وانصرف عائدا إلى أهله وهو يكاد يطير من الفرح بنجاحه المهني. وعرض الأمر على أحد المشايخ الملاصقين ل"ثابت" فقال: "إنه قضاء وقدر ولله في خلقه شئون، ولا يجوز الاعتراض على تصريف الله للكون في الإنسان أو البقر".
ولوحظ في الشهور الأخيرة تسارع في ضخامة جسد "ثابت" لدرجة أنه أصبح يتحرك بصعوبة، بل إنه يكاد يتدحرج بسبب عرض جسمه وانتفاخه الهائل مع قصر قامته، وحين حاولت زوجته أن تلفت نظره لهذا الأمر كان هو يهون عليها ويقول بأن هذا أمر طبيعي، وربما كان في دخيلة نفسه يفرح بضخامة جسده حتى ولو كان على حساب حركته، بل إن الحركة أساسا لم تكن تهمه فهو يعشق الجلوس في مكانه وحوله أتباعه من الرعاة المنتفخين، بشرط أن لا يكون أحدهم بدرجة انتفاخه. وكان "ثابت" يعرف ولاء من حوله بحجم أجسادهم، فإذا وجد أحدهم وقد انتفخ جسده وتضخم كثيرا عرف أنه تجاوز حصته المسموح بها (أو المسكوت عنها) في لبن المسمار، وهنا يبدأ ثابت في محاصرته أو حرمانه، أو التشهير به، أو إقصائه، أو التخلص منه بأية طريقة.
وسرت شائعة بين أهل المرعى بأن من يشرب لبن المسمار يوميا لمدة 6 سنوات لا يموت، أو أنه يعيش طويلا جدا، وقد سر "ثابت" بهذه الشائعة ونظر إلى نفسه مبتهجا بمعرفته "سر" لبن السمار الذي لم يعرفه من سبقوه وكانوا يتركونه للبقر يشربونه، وقد سلم الناس بأن "ثابت" لن يموت، أو على الأقل لن يشهدوا هم موته وربما أبناؤهم وأحفادهم، وقد رتبوا أمورهم على هذه الفكرة، فلا يوجد دليل واحد على احتمال موته فهو يزداد قوة وضخامة وصلابة مع الوقت... ونظرا لثبات "ثابت" وطول عمره فقد أطلق على المرعى "مرعى ثابت" وعلى الطريق الذي يمر به "طريق ثابت".
وفي يوم من الأيام صحي أهل المرعى على صرخة هائلة سبقها انفجار شديد، وهرعوا إلى مصدر الصوت المختلف هذه المرة عما عاهدوه فوجدوا زوجة ثابت تصرخ في ذهول وهي تقول: لقد مات "ثابت"، ووقف أهل المرعى مذهولون، وهم لا يصدقون ويحسبون أن في الأمر خطأ ويريدون أن يتأكدوا، ولم يكن في المنطقة أو قريب منها طبيب يفحص "ثابت"، فاستعانوا بأحد الأطباء البيطريين المتواجدين قريبا من المرعى فأكد فعلا أن "ثابت" قد مات.
والغريب في الأمر أن "ثابت" بعد موته أخذ ينتفخ وينتفخ بشكل متسارع، ويبدو أن آلية إخراج الريح من بطنه قد توقفت أو ضعفت بموته (هكذا قال الطبيب البيطري) بينما العفونة الناتجة عن الكميات الهائلة من لبن المسمار مازالت تتزايد، وقد أدى هذا إلى مشكلة عند تغسيل ثابت إذ لم يجدوا شيئا يمكن أن يضعوه عليه لكي يغسلوه، فقال أحد الواقفين إنه كبيرنا ولا يحتاج إلى تغسيل فجسده طاهر بطبعه، فنظر إليه الواقفون وهم يضعون أيديهم على أنوفهم اتقاء للرائحة الصادرة عن جسد "ثابت" ومن فتحات جسده، ولكنهم وافقوا على هذا الرأي للخروج من المأزق، فحملوه وذهبوا لدفنه، ولكنهم لم يستطيعوا إدخاله في القبر، حيث لا يوجد قبر يتسع لهذا الجسد الضخم المنتفخ، فأشار عليهم بعض أولي الرأي بأن يصرفوا نظرا عن مسألة القبر، وأن يحفروا له حفرة هائلة تتسع لجسده، فظلوا يحفرون عدة أيام حتى تستوعب الحفرة هذا الجسد، وقد عانوا تلك الأيام من رائحة الجسد التي كانت تشم على بعد هائل. وبينما انشغلوا هم في الحفر والدفن، تسلل أعوان ثابت إلى البقرات الوالدات حديثا يحاولون ارتشاف لبن المسمار قبل أن يأتي أحد أبناء "ثابت" ويستأثر بذلك اللبن كما استأثر أبوه.
ويذكر أهل القرية والقرى المجاورة أن جسد "ثابت" كان يبرز من الأرض من وقت لآخر، فيقول البعض إن الأرض تلفظه ويقول آخرون بل هي كرامة تظهر له بعد مماته، وبعد أن يختلفوا يضطرون إلى تغطية الجسد المنتفخ المتعفن بالطين والرمال حتى ارتفع المكان بشكل ملحوظ وأصبح يسمى "هضبة ثابت"، وكانت تصدر منه رائحة يصعب تسميتها أو وصفها، وكان الناس يأتون من أماكن بعيدة ليروا الهضبة التي يقبع فيها الجسد المتمدد، تلك الهضبة التي تعلو وتتسع على حساب المرعى وبيوت الناس، ولكي يحدوا من تمدد الجسد والهضبة أشار عليهم أحد المهندسين بعمل حجرة هائلة من المسلح تحيط بالهضبة من كل جوانبها، وأن يبطنوها ويطلوها بال "بيوتامين" حتى تحجب الرائحة المنبعثة، وأصبحت "هضبة ثابت" مزارا يتبرك به أهل المرعى والقرى المحيطة بهم، ويقيمون لذلك مولدا سنويا يسمونه "مولد سيدي راعي البقر".
اقرأ أيضاً:
التعليم السلطوي / اتركونا مع الله في صلاة العيد