تذكرت توا ما قاله لي الدكتور محمود أستاذ العلوم السياسية في جامعة طهران عن السفر، وهو من المسافرين المحترفين، بحيث لا يبقى في بلاده إلا قليلا!!
قال بالأصالة عن نفسه أو نقلا عن أحدهم، والحقيقة أنني حتى لا أتذكر هل سمعت هذا الكلام منه هو أم من غيره!!
المعنى يتردد بداخلي بقوة، وهو أن السفر هو الظرف الأنسب للتأمل العميق في الذات والكون والأحوال، وهو المناسبة الأهم، والفرصة الأفضل للتفكير واتخاذ القرارات، وأيا كان القائل، فإن هذه هي المشاعر الثابتة والمحفورة في ضميري كعاشق للسفر، وممارس له بقدر الإمكان!!
تنخلع من أسر العادة، وروتين اليوم والليلة، وتكرار الأشكال والأشخاص، والاعتياد نوع من العمى في البصيرة قبل البصر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن النفوس تكل ـ أي تتعب ـ وإنها إذا كلت عميت، وأحسبه كان يقصد الاعتياد والتكرار، ولذلك كان الترفيه حقا وواجبا، ولكن أكثر قومي لا يعلمون!!
ولذلك كان السفر والسياحة من توجيهات الدين حتى جعله فرضا على كل مسلم أن يسافر، ولو مرة في العمر للحج، إذا كان من خارج مكة، والأغلبية طبعا تسافر في رحلة العمر هذه، فأي تكريم للسفر والمسافرين طالما كان المقصد شريفا.
ومن أعمدة الدين ـ كما يقول المحدثون والفقهاء ـ قوله صلى الله وسلم:"إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله"... إلخ
فماذا اختار النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم مثال الهجرة والسفر ليكون مثالا على الإخلاص من عدمه؟!! وما هي نية كل سائح وغايته؟! بل هل يراجعها ويخلصها ويصحح إن شابها شيء؟!
"اللهم إنا نسألك في سفرنا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى"
والسير في الأرض يكون للاعتبار، ويكون لمعرفة الأحوال، ويكون للاستكشاف، استكشاف الذات والآخر، الروح والعالم، الحكايات والحقائق، الخداع والتجارب والخبرات والمغامرات، وعظمة الكون وخالقه، وقد قلت يوما: سافر واقترب، فأحسب أن من يسافر يقترب من ذاته ومن الحقائق ومن الله وممن يجب، طالما كان منفتحا على نفسه، ولهذا أصبحت أعتبر السفر نعمة وفرصة، وعبادة وذكرا لله سبحانه، وأقترب من نفسي حين تسقط عن البصيرة غشاوة الاعتياد فأرى أفضل، وأتحاور أعمق، وأتواصل أنجح.
حين تبتعد عن مكانك وناسك وإيقاع عيشك، ورائحة رقدتك، وملمس وحدتك أو عشيرتك وتتاح أمامك الفرصة لمعاينة تختلف تجد نفسك في مقارنة ضرورية لإثبات أو نفي رغبتك أو رفضك، اختيارك أو قهرك، انتباهك أو غفلتك في ثنايا حياة متورط فيها.
حين تطوي الأرض محلقا في السماء فوق السحاب أو خلاله ينبثق في رأسك ألف سؤال عن ماهيتك ومهمتك ووزنك وهدفك ومصيرك وغايتك حين تكتشف كم أنت صغير وسط كون ذاخر، ضعيف وسط جبال ووديان وأنهار وبحار ورياح وطبيعة قاسية أو رحيمة، ناعسة أو فر مجرة.
تبدأ في قياس أبعادك وإحداثيات وجودك ومصداقية ما تقوله عن أحلامك، وما تفرق فيه من خيالاتك وأمنياتك، وكأنك لابد أن تبتعد مما ينغمس فيه وجودك لتعاين ذاتك!
أغلبنا غافل عن معرفة نفسه التي بين جنبيه، وهذا من أكبر مقدمات الفشل في الحياة، وعندنا منه كثير!!
حضرت تدريبا ذات مرة، وطلب منا أن نكتب قائمة بأهدافنا في الحياة، وبعدها طلب منا أن نكتب قائمة بأهم ما نقضي فيه أوقاتنا فعلا، ومن ثم تكتشف المفارقة أو الفجوة بين ما تعتقد أنه أهدافك وما تسعى إليه بالفعل، وتمارسه كل يوم وليلة!!
وأول الكذب وأبشعه هو ما نمارسه على أنفسنا، ولا عجب أننا بعد ذلك نتخبط ونتعثر ونترنح ونفشل، والفشل ليس نهاية العالم بل هو في حالتنا هذه يكون بجدارة محض معلمنا الأول، وشيخنا الرئيس، وربما الأخير!!!
كيف ينجح جاهل نفسه في إقامة علاقة أو إدارة تجارة أو مواصلة دراسة أو تنمية مهارة، وبعضه ينكر بعضه، وأجزاء منه تناقض أخرى وتضاربها، وقد تغالبها وتهزمها؟!!
كيف يمكن أن نصل لغاية، ونحن لا نعرف أية مركبة نمتطي، ولا أي ذهن نحمل أو أية راحلة تلك التي تحملنا وتتحملنا ونتحملها!!
وعجيب شأن هذا الإنسان الذي تراه شغوفا بمعرفة الأشياء والأشخاص والبلدان، ولا يصرف اهتماما يذكر لمعرفة ذاته!!!
والسفر مناسبة ونافذة تطل منها ـ إن شئت ـ فترى ملامحك في عيون الآخرين، وحياتك وتضاريس خرائطك حين ترى كيف يعيشون ويتصرفون، ويبحثون عن السعادة!!
وظالمة هي المجتمعات والظروف التي لا تتيح للمرأة والرجل، الفتاة والشاب أن يسافروا فيتعلموا عن ذواتهم قبل العالم، ومن مجتمعاتنا ما يعتبر السفر ترفا زائدا لا يليق، أو إرشادهم إلى إصلاح أو تطوير يرددون شعاراته وألفاظه بينما لا يملكون مجرد مفاتح التفكير فيه!!!
قلت لصديقي الأكاديمي الحركي المثقف الصعيدي: أعرف مجموعة تمارس السفر والاكتشاف، فقال لي: ولم لا يزورون الصعيد؟!
وأغلبنا جاهل بوطنه ولا يعرف أين تقع مدن بلده، ولا كيف ينطق أهلها، ولا كيف الطقس والفقر فيها!!!
وربما يسافر أو يحلم بالسفر إلى الشمال أو الغرب بينما المتاح أمامه من سفر لا يمارسه منتظرا!!
شبابنا يقتله الضجر وغياب المبادرات والآفاق، ولا يسافر إلا بحثا عن لقمة عيش في السواحل والقرى السياحية ـ وهذه قصة تستحق الرواية ـ أو يقفز في المتوسط بحثا عن مبادرة أو مغامرة قد تنتهي بموته أو سجنه أو وصوله إلى ما يعتبره ملاذا أفضل!!
كيف يحلم البعض بتغيير بشر لا يكاد يعرف عنهم شيئا؟!
كيف يتمنى أو يتصور إصلاح بلاد لم يتحرك ولم يسافر فيها فيعرف مناخها وطبيعتها وناسها وثرواتها وأوجاعها؟!
كيف يمكن بناء مستقبل أمة لا تعرف ماضيها وتراثها وفنونها وطبقات حضارتها وأجيال عمارتها ومن عبروا فيها منتصرين أو منكسرين؟!
كيف نحبها ونحن لا نعرفها؟!
وكيف يظن البعض أنه يمكن النجاة بمجرد الخروج من مكان إلى مكان؟!
وكيف يعتقد أن أموالا يدفعها أو دارا أوسع يشتريها أو تبرعات أو حتى حملات أو تظاهرات في الغربة في الغربة ستنقل وطنه من حال إلى حال؟!
وكيف يكذب بعضنا حين تأخذه غواية الترحال فيقول أنه يغترب من أجل بلده، ويطيل السفر، وينتقل بين جوانب الأرض، وأنحاء السماء مرتحلا دون أن يجلس ليهضم ما يلوح له ـ إن كان أصلا ينتبه ـ فما مواصلة السفر بالشيء المفيد الممتع، إنما تسافر لتلتقط، وتهدأ لتستوعب!!
إن حركة السفر والسكون مثل الشهيق والزفير، وبدون أحدهما لا يكون تنفس!! لأن السفر والحركة هو نشاط الظاهر بينما السكون والهضم والاستيعاب هم حركة الباطن، وكلاهما يكمل اللوحة تماما مثل اللون والفراغ، وهكذا أحب سفرا بعد سكون ثم سكونا يعد سفر، ترحال الظاهر والباطن، فأسافر أبدا.
واقرأ أيضًا
على باب الله: رمضان حالة/ على باب الله: معركة الثقافة