اعتذرت لي المدرسة الشابة السمراء في عيادتي أنها تأخرت عن الاستشارة، لأنها كانت مشغولة في أداء امتحانات كادر المدرسين، فانتهزتها فرصة لأسألها عن رأيها في ذلك، فأجابت بطيبة أنها أدت الامتحان بكفاءة مناسبة، وأنها ترى أن هذه الفرصة قد أتاحت لها مراجعة معلوماتها، وتجديد ذاكرتها، ولم أسألها: إذن ماذا؟ ثم ماذا؟
كنت في شطحي الباكر، وصلت إلى درجة التساؤل عن سبب حرصنا على سلامة العينين، خاصة وأنني كنت معجبا بذكاء وألمعية وحضور الشيخ الكفيف محمد أبو عبد الحافظ في بلدنا الذي تعلمت منه –في الأربعينات- معنى السياسة ومعان أخرى كثيرة في الحياة، تعلمتها من قفشاته وسخريته ومتابعته لكل ما يجري من موقعه الوفدي المتميز. وصل شطحي إلى درجة التساؤل: هل يكفي أن تكون عيوننا سليمة (6/6) لنطمئن أنها قادرة أن ترى؟ أم أن المهم هو: ماذا ترى؟ ولماذا ترى؟ ثم ماذا؟ كان هذا عبث باكر على أحسن الفروض، لا هو نكتة، ولا فلسفة، مع أني كنت أتصور أيامها أنه ألف باء المنطق السليم. لقد وهبنا الله عينين لنرى بهما، لكن لنرى بهما ماذا؟ وبأي مقياس؟ وعلى مدى أي طيف من التنوع؟ وإلى أي مستوى من الاستيعاب؟ طبعا بمجرد أن كبرت وعقلت، تراجعت عن هذا الشطح الخطر، ولم أعلنه لأحد إلا الآن، بعد أن اطمأننت أن أحداً لم يعد يفهم، أقصد لم يعد يعنيه أن يفهم، عذراً.
ثم ظهرت بدعة جديدة في التطبيب النفسي، ظاهرها طيب، وباطنها مشبوه، ذلك أنه حين تزايدت الاحتجاجات على الآثار السلبية لبعض العقاقير النفسية لأنها قد تخفي الأعراض، لحساب مزيد من التبلد والجمود والانسحاب، ظهرت مقاييس نفسية تقيس شيئاً أسموه "نوعية الحياة"، وراحت الشركات تؤكد بطريقتها أن عقار كذا يحسن "نوعية الحياة" بالإضافة إلى إزالة الأعراض، ولم أجد في أغلب ما عرضته تلك المقاييس ما يبرر لي الحياة!!
وحين رحت أتابع "هيْجَة" اختبارات كادر التعليم حضرتني أسئلة مزعجة هي التي استدعت ذكرياتي عن الشيخ محمد أبو عبد الحافظ الكفيف، وعن نوعية الحياة حسب مواصفات شركات الأدوية، أسئلة لم تبلغ "شذوذ شطحي الباكر"، ولا "شكوك حذري المتأخر"، أسئلة منها:
0 هم يمتحنون المدرسين، في ماذا؟ لماذا؟
0 هل حددنا سنة 2008 (أكرر 2008) ماذا نعلِّم؟ مـَـنْ؟ لماذا؟
0 هل هذه الامتحانات بهذه الطريقة لمعرفة ماذا تبقى في ذاكرة المدرسين من معلومات موادهم (كما قالت لي المدرِّسة الطيبة زائرة العيادة)؟
0 هل توجد أسئلة في اختبارات الكادر تقيّم الأخلاق بطريق مباشر أو غير مباشر (بعد أن أصبح الغش فضيلة، والتعاون على التفويت له ثوابه؟)!
0 هل عندنا محكّ موضوعي نقيّم به جدوى هذه الامتحانات؟، ليس في أن يحصل المدرس الشاطر على حقه في تعديل راتبه، وإنما جدواها وعائدها على العملية التعليمية ذاتها (وعلى البلد)!.
0 هل هذه الجدوى، إن وجدت، لها أثرها العملي والواقعي في تهيئة الفرصة للمتعلم أن يحصل على لقمة عيشه بكرامة، وهو يخدم بلده بإنتاجه، ويخدم ناسه بإخلاصه، ويعبد ربه بعمله؟ (مقارنة بمن لم يتعلم؟).
ثم إن ربط اختبارات الكادر هذه بعلاوة مادية معينة، مع أنه ربط منطقي، وأغلب الدول المتحضرة تفعل ذلك، قد يساهم في مزيد من تدعيم القيم السلبية التي انتشرت في مجتمعنا مؤخراً؛ أتوقع أن من لن يوفق في اجتياز هذه الامتحانات ليحصل على حقه في الكادر الجديد، سوف يسارع بالتعويض من خلال الدروس الخصوصية والتغشيش أيهما أربح (أو بكليهما معاً غالباً)، وسلّم لي على الكادر!. (موجز العنوان في الصفحة الأولى في دستور اليوم "الجمعة"، أثناء كتابتي هذه التعتعة يقول:.. المعلمون انقسموا إلى قسمين: الأول اعتصم ورفض دخول اللجان، والثاني اعتمد على الغش الجماعي.. عالبركة!!).
ومع أنني مع فكرة التقييم المستمر في كل المجالات بمختلف الوسائل أسوة بالدول المتحضرة، التي أصبحت درجة الدكتوراة في بعضها لها عمرها الافتراضي المحدود، أي أن حاملها لا يستمر يحملها إن لم يجددها ليثبت أنه ما زال في مستواها، أقول مع أني مع هذه الفكرة فعلاً، إلا أنها ينبغي أن تكون جزءاً من منظومة كلية تشمل الجميع دون استثناء، من عامل النظافة حتى رئيس الوزراء (يكفي هذا)، مروراً بأساتذة الجامعة، على أن ننتبه أن تكون اختبارات الوزراء في السياسة، وليس في التخصص، فمثلاً يختبر وزير الصحة في مدى كفاءته في إدارة الناس لصالح سلامتهم المتكاملة وتحريك الوعي الصحي الإيجابي، وليس في أعراض الإيدز أو خطوات جراحة القلب المفتوح.. إلخ.
نشرت في الدستور بتاريخ 6-9-2008
اقرأ أيضا:
العودة من المنفى: درويش، ذلك الشعر الآخر / استعمال الجسد: في سعار التنافس وقطع الغيار!! / رمضان والموت والثروة والجنس