عندما عرضت طالبة الدراسات العليا رسالتها التي كانت أطروحة ماجستير عن المرأة والأسرة والسياسة في منظور الإسلام على الشيخ الذي درس لها أصول الفقه كان تعليقه أن الأساس الذي بنت عليه أطروحتها يحتاج إلى مراجعة!!
كان يقصد ما لم أدركه تماما وقتها، ولكنني احتفظت به في ركن من أركان عقلي كما أوصاني شيخي في التخصص ضمن رسالته هو الموجهة إليَّ تعليقا على ما عرضته رجاءا من أستاذ آخر، والقصة متشابكة، وهي لذيذة، ولكن تطول!!!
شيخ الأصول قال للطالبة: وكأنك بنيت أطروحتك على ثبات الأسرة ككيان في الإسلام، بينما لا أراها كذلك!!
وقد وجدتني أستعيد هذا كله، وأنا أتحاور مع الشاب النابه الذي قال لي إن فارقا مهما بين حياتنا وثقافتنا في الزواج والأسرة وتجربة وثقافة وممارسة الغرب المعاصر لها هو أن الأسرة عندنا كيان ثابت للاستقرار والدوام وتبعا لهذا فان إقامة علاقة بين رجل وامرأة في إطار الوفاء والالتزام بهذا الرباط يبدو أصعب لدينا مقارنة بالغرب الذي كنت أروي له عن قصة الأمريكية التي سألتها أنا عن العربي الذي يقطن معها هي وأولادها، ويعاشرها وتتخذه بمثابة زوج "على النمط المعروف عندهم"، سألتها عن الأحوال بينهما من ناحية الاستقرار والمستقبل، فقالت: نحن بخير، ولو ظهر غير ذلك، فإنه لن يكون آخر الرجال في العالم!!
والشائع في عقولنا أن المرأة الغربية تغير عشاقها كما تغير حفاظات رضيعها، أو تسريحة شعرها، وأنها تعاشر وتصادق بلا تمييز ولا معايير ولا هدف غير المتعة الحسية... إلخ هذه الأساطير التي تملأ عقولنا عن الغربيين، وعن العالم كله تقريبا، ولذلك يتحول الاختلاف الثقافي وتداعياته إلى مدخل لمراكمة الأوهام والضلالات والتصورات المختلة عن ذواتنا وعن الآخرين!!
لا الأسرة في الإسلام تهدف أو تستهدف ثباتا أو استقرارا ولا تتصور دواما أو أبدية على نمط الزواج المسيحي، أو الكاثوليكي تحديدا كما يستشهدون دائما، ولا هي ـأي الأسرةـ مجرد صورة أو تغطية لتلبية حاجة فطرية أساسية عند البشر جميعا، وهي الجنس، ولكنها إطار له محددات بسيطة وواضحة تكفل لهذا النظام النجاح، وتنوع المحتوى يعنى الثراء لا الانحلال ولا التفكك ولا التمييع!! تنوع صور الزواج وأشكاله.
لا الأسرة في الإسلام وفلسفته ومقاصده يمكن أن تصبح هكذا، وأي كما آلت إليه أوضاعنا البائسة حيث يعيش الملايين من الرجال والنساء خارج إطار وفرصة الزواج لأن الصيغة الوحيدة المقبولة اجتماعيا صارت بعيدة المنال وتكتنفها صعوبات جمة، والمجتمع ينشد الاستقرار والدوام والثبات المهدور والمفتقد بشكل عام، ويلتمسه في الأسرة مما يزيد من الأعباء على كيان منهك بالتطلعات والأحلام والأماني، ومثقل أصلا بالمشكلات، ومتعثر أمام عقبات وأوضاع كثيرة غير مواتية!!
أفكار عميقة ومركبة، وربما صادمة للتفكير السائد، وتستحق نقاشا معمقا ومطولا يهمنا ويتعلق بواقعنا البائس ومستقبلنا المنشود، وهذا مجرد مثال، ولا يدور بخلدي مناقشة هذا تفصيلا الآن فهو مثال أحببت أن أثبته وأنا أصل لما قاله الشاب النابه بعد أن أنصت إلى كلامي، ابتسم وقال: إذا كان الأمر كذلك فماذا يمكن أن نفعل في مواجهة ثقافة مجتمع؟! وهل تغيرت ثقافة مجتمعات بشكل جذري في سوابق ممكن نستلهمها، وأنبني على غرارها؟!!
قلت له: على حد علمي... الصين تغيرت مع "ماتوسي تونغ"، وثورته الثقافية معروفة ومهمة!!
قال: لم يتغيروا إلا حين وضعوا أنفسهم أمام القطار (لعله يعني أنهم وضعوا أنفسهم حيث لا خيار، إما التغيير أو الفناء)!!
قلت له: ثورة ماو كانت عنيفة جدا ولكنها أثمرت في النهاية أمة جديدة ومنسجمة وتنافس حاليا، وأتذكر الآن كلامي مع الصديق الأكاديمي الإيراني ـ أمريكي الخلفية ـ الذي أكد أكثر على أهمية دور من جاءوا بعد "ماو"، ومنهم "شواين لاي" الذي يرى صديقي هذا أنه الباني الحقيقي للصين المعاصرة، أي مهندس البناء بعد رحيل ماو كقيادة كاريزمية!!
وقلت للشاب النابه أيضا أن تغييرا أعمق وأكثر جذرية، وأقل ألما ودماءً حصل مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك يراه الكثيرون ـ من المفكرين المنصفين ـ أعظم قائد وقيادة حولت مسار وتاريخ الإنسانية، وأثرت في مجرى الأحداث بدعوة فريدة وثورية دون أن تستهدف إراقة الدماء أو تشترطها قربانا للتغيير، أو بناء أمة جديدة!!
كيف تغيرت ثقافة مجتمع جاهلي أخرق محدود لم يكن يمتلك من الموارد إلا ما نعرف، ولم يكن يتحلى إلا ببقايا قيم وأخلاق شهامة ونخوة وجاهلية وتعصب، ولم يكن ينتظره أي مستقبل خارج أرضه في الجزيرة العربية، وربما كان مرشحا للاندثار والانقراض مثل غيره من المجتمعات والثقافات المحلية البائدة، فإذا بالإسلام ينقله نقلة حضارية ونوعية هائلة، ويصبح في وقت وجيز جدا كيانا متحديا يدق أبواب إمبراطوريات عتيدة وقديمة راسخة!!
ونحن وصلنا إلى نقطة تشبه جاهلية العرب قبل الإسلام من نواحي متعددة، وصرنا نحتاج إلى نفس التغيير الثقافي والذهني والروحي والاجتماعي الذي حصل لهذه الجاهلية بفعل الإسلام، ولعل هذا بعض معنى قولهم أنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح أولها!!
أقول هذا وأنا أرى وأعرف أن أفهاما متخلفة وممارسات بشعة تنتشر وتزدهر وتتنامى باسم الإسلام حتى صار متهما بكل الموبقات والمصائب، بينما هو الدين الوحيد الذي أنجز مهمته الأولى بكفاءة هائلة، وهو الدين الوحيد في عالم اليوم الذي ينتشر رغم بؤس أحوال غالبية من المنتمين إليه، وبخاصة في منطقة الظهور الأولى، ولا أقصد هنا بؤس الأموال والأرصدة، ولكن بؤس الأحوال والأدمغة، نحتاج إلى تغيير ثقافي واسع وجذري، وثقافي تغيير وتحضر لا يوفرها في حالتنا سوى الإسلام، بينما الإسلام صار في تطبيقنا جزءا من الفوضى والبزرميط التي نعيشها!! ولذلك صار مشروعا أن نسأل: كيف يتحول القيد إلى سوار؟! والعبء إلى تحفيز؟!
ومنحدر الهبوط إلى معراج صعود؟!!
واقرأ أيضًا
على باب الله: السفر/ على باب الله: زمن الرفيق الأليكتروني