سألتني أحد الأخوات عبر البريد الإلكتروني السؤال التالي:
منذ أسابيع سمعت في التلفاز يقولون مثل ((فاقد الشيء لا يعطي)) مثال: الذي حرم منه الإنسان في الصغر لن يستطيع أن يقدمه لأولاده في الكبر, وبقيت المذيعة تتكلم أما أنا سرحت في هذه الجملة حتى الآن ولن أصبح مرتاحة حتى تجب عن سؤالي, هل هذا صحيح و يعمم على كل الحالات؟؟؟
حالتان لا أعلم الصحيح منهما, هل فاقد الشيء لا يعطي؟ أم بالعكس تماما؟ أم بالعكس لكن إلى حد ما حسب الشخص ذاته ومدى الآثار التي ولدتها الأمور التي حرم منها، فكثيرا ما يتعقّد الإنسان من بعض الأمور التي حرم منها فيغدو ساعيا لينتقم من الحياة على حد قوله، مع أن الحياة امتحان ويجب إتباع سياسة عاقلة لتجاوزه وليس الانتقام من عقباته.
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
أهلا وسهلا بالأخت الكريمة
فاقد الشيء لا يعطيه أو قد لا يعطيه أو قد يعطيه أو سيعطيه.. كل هذه الاحتمالات لا تعتمد وببساطة على فقدان الشيء أو توفره، بل تعتمد هل ماهية الشيء المفقود ومدى تأثير فقده، وتعتمد أيضاً على من هو الإنسان الفاقد لهذا الشيء، فعمرو غير زيد والظروف التي كانت محيطة بعمرو عند الفقد غير الظروف التي كانت محيطة بزيد وهكذا.
وإن فرضنا جدلاً صحة المقولة (فاقد الشيء لا يعطيه) فلما لا يكون المثل أو القول أيضاً صحيحاً: واجد الشيء يعطيه!!، وإن سألنا الحياة عن صحة المقولتين أو خطأهما لأجابت:
من وجد شيئاً أو فقده: لن يعطيه أو قد لا يعطيه أو قد يعطيه أو سيعطيه.
إنه الأمر في ذات الشيء وفي ذات الإنسان من فقده أو وجده، وظروف فقده.
ويجب أن تعلمي أن أمور الحياة ليس ثنائية القطب إما أسود أو أبيض، فللون الرمادي ودرجاته أدوارٌ كثيرة ستُريها لك ظروف الحياة.
ولنأخذ مثالاً يوضح قولنا:
الطفل اللقيط الذي تربى دون أهل ومنذ لحظاته الأولى ولم يعرف الحنان الأمومي إلا للحظات عابرة وفترات قصيرة ومن محسنات تتبدل عليه يوماً بعد يوم سوف يتولد لديه عادة إن لم يجد الرعاية البديلة مشاعر العدوان والسخط على المجتمع، ففقد الحنان والعطف وسوف لن يعطيه فعلاً، واذهب إلى المؤسسات الإيوائية التي لا تتوفر فيها الرعاية الجيدة فضلاً عن الإساءة لتجدي الكثير من العدوان عند الأطفال فاقدي الرعاية الوالدية.. هنا تنطبق المقولة ((فاقد الشيء لا يعطيه))؛
ولكن إذا وفرنا لهذا الطفل رعاية وحماية وإرشاد وتوجيه سوف يتعلم التعاطف والحب ويعطيها بشكل أفضل منا نحن ممن انحدرنا من أسر حقيقية رحيمة، ولكن يبقى الأمر نسبي..
فهذا محمدٌ سيد البشر وخير البرية فقد الأب قبل أن يولد وفقد الأم وهو في المهد وتوالى عليه -صلوات ربي عليه- الفقد تلو الفقد، والملاحقة والهجر من قومه وأعمامه بالخاصة!!، ليجد نفسه في الغار مع صاحبه وحسب ويقول كلماته الواثقة بمعية الله ((يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما!!)) ((لا تحزن إن الله معنا))، ليجده العالم -صلوات ربي وسلامه عليه- وبعد كل هذه المحن العظيمة وإلى يوم القيامة سيد العطاء وأجود بالخير من الريح المرسلة والرحمة المهداة للعالمين من البشر والجن والحجر والبيئة والكون بأسره.
فكان أعظم زوجٍّ وأبٍّ وحاكمٍّ.. وأرحم خلق الله بخلقه.. ولنا في رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم خير قدوة وأعظم مثال في كل حال وحينما قال لقومه الذين طردوه بعد فتح مكّة ((اذهبوا فأنتم الطلقاء))، قال الله تعالى في سورة الضحى ((وَالضُّحَى* وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى* مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى* وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى* وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى* أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى* َوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى* َوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى* َأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ* َأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ* َأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ))، فالمهم في الموضوع أن نعلم أننا نحن البشر لسنا آلات لها قوانين صارمة كالفيزياء، وإنما هنالك الكثير من العوامل تلعب الدور الكبير في التحكم في سلوكنا ومشاعرنا وتحدد طريقة تعاملنا مع الحياة ومع خبراتنا الماضية فيها.
ثم يجب أن تعلمي أن العلم بالتعلم والحلم (الصبر) بالتحلّم، والإنسان زوّده خالقه جل وعلا بالقدرة على التعلّم والكسب والتفكّر والقدرة على التقليد والمحاكاة. نعم لخبرات الطفولة الأولى أهميتها ولكن هذا لا يعني أن الإنسان لا يستطيع أن يطوّرها شخصيته بالاتجاه الذي يريد، وخاصةً ونحن في عصرٍ شملت علومه كلَّ صغيرٍ وكبيرٍ وفتحت المجال لتعلّم الكثير من الخبرات التي كان يُظن في الماضي أنها فطرية لا يمكن اكتسابها.
إذن من وجد شيئاً أو فقده قد يعطيه أو لا يعطيه، وذلك يعتمد على ذات الشيء وذات الإنسان الذي فقده أو وجده، والظروف المحيطة فيه.
شكراً لك على طرحك هذا الموضوع الهام، تابعينا بأفكارك.. بارك الله فيك..
*اقرأ أيضاً:
الصخرة، بيروت، التوحد، الوحدة وأنا / من عجائب الصدقة/ نـفسي وهـذا العـــيد.. تبعاتٌ نفسية