المحاكمة
في أحد الأيام الربيعية الجميلة، كنت في إحدى الحدائق العامة، فإذا بالحديث يحتد بين شخصين ويعلو صوتهما، ويكيلان الاتهامات لبعضهما، قال أحدهما للآخر: قبل سنتين كان لك ذات الموقف من القضية الفلانية وهذا كله بسبب... لم أتابع ما يقولان فقد شت تفكيري وسرحت قليلاً وأنا أفكر كيف أن أحدهم يحاكم الآخر على خطأ صدر عنه قبل سنتين؟ ألم تتغير الظروف؟ ألم يمر وقت كافٍ لنسيان ما صدر قبل سنوات؟ ثم إن الشخص الآخر قد تغير، أو أنه كان جاهلاً بكل الأمور والمقتضيات اللازمة لفهم ما حدث سابقاً، وأن ذلك تغير أيضاً، ومن الممكن أنه لم يخطئ وأن ما تم تقييمه على أنه خطأ ليس إلا وجهة نظر من الآخر، ثم... ثم... ثم... ألا نتفق كلنا على أننا في بعض الأحيان قد نقوم بأعمال كثيرة يراها الآخرون على أنها غير صحيحة لكنها مناسبة أكثر لظرفنا ووضعنا وخصوصية شخصيتنا، إلا أنهم قد لا يحسنون تقدير ذلك، ويزيد اتفاقنا على أننا كثيراً ما نتعلم من بعد خطأ ما، وإلا لما سمي ذلك بالخبرة!.
في بعض القضايا يكون الخطأ واضحاً جداً، ونحن لسنا بصدد تقييم الأمور التي تتعلق بالحلال والحرام فمعظم هذه الأمور واضحة، وما هو غير واضح فيما يتعلق بالحلال والحرام يمكن أن نستشير أو نسأل من كان به خبيراً من أهل العلم الشرعي.
ونعود للقصة التي ابتدأت بها، فنحن ضد أن نظلم أحداً أو أن نحاكمه على غلطته الواحدة مرات عديدة، لكن ألسنا من يفعل ذلك بأنفسنا ضد أنفسنا في أحيانٍ كثيرة، إن لم يكن ذلك طوال الوقت؟ كيف؟ ألا نحاسب أنفسنا يومياً على ما فات وما مضى وانقضى؟. يكون ذلك غالباً في أوقات الليل أو قبل النوم، وأحياناً في بعض أوقات الإجازات أو أوقات الفراغ الثمينة، حيث يعود واحدنا إلى الماضي البعيد أو القريب ويعيش دوامة طويلة ومزعجة من أفكار الفشل أو الضعف أو الذنب، وكل ذلك يضع الواحد منا في أسوء الأوضاع، فليس هنالك ما هو أسوء من الشعور بالذنب أو العجز أو الدونية أو الضعف وقلة الحيلة أو الرثاء بسبب موقف قديم، وخاصة أننا غالباً لا نملك مفاتيح التغيير، أو ليس لنا أي قدرة على التحكم بما حدث، قد أصبح من الماضي، حيث أن الماضي كما الرصاصة إذا خرج من فوهة الحدث فلا سبيل لعودتها.
فلنتفق على ما نريد أن نورده هنا:
0 نحن نحاسب أنفسنا بأنفسنا على أخطاء قديمة.
0 كثير من الأخطاء القديمة سنجد بأن أطرافها ومن في محيطنا الشخصي قد نسوها، ولم يبق إلا صاحب هذا الخطأ –والذي هو نحن- نذكرها فقط.
0 نجعل من غلطة قديمة عائقاً في طريق القدرة على المضي ومتابعة طريقنا.
0 نحكم على الخطأ القديم من خلال ما صرنا عليه حالياً؛ مثلاً لو قمت أنا بمحاكمة نفسي على خطأٍ ارتكبته قبل خمس سنوات فأكون كمن يحاكم شخصاً آخر على غلطته! فأنا قبل خمس سنوات لم أكن أتمتع بالخبرة أو العقلية أو المعرفة التي توفرت لي الآن، وأنا قبل خمس سنوات كنت أحكم على الأمور بشكل يناسب عقليتي وخبرتي، ومعرفتي، وأنا الآن قد أكون عرفت بعض المعلومات، واطلعت على بعض التفاصيل التي كانت تخفى عليّ قبل خمس سنوات، وبالتالي فقد كان عندي نقص في المعلومات التي تمكنني من الحكم بشكل أفضل، فكيف ألوم نفسي على شيء لم أكن أعرف عنه الكثير!.
0 ليس هنالك من أحد يقرر شيئاً يضره أو يسيء إليه، وإن كان ذلك فإنه يظن أنه القرار الذي سيعود عليه بالنفع، لذلك فإن أي قرار اتخذته سابقاً أتوقع أن نتيجته ستكون في صالحي– هكذا أعتقد– ولو توفر أدنى شك لدي أو لدى أي منا أنه سيقرر أو يقوم بعمل ما يسوق له الضرر لامتنع عنه، أو على الأقل لاتخذ الاحتياطات والتدابير اللازمة، لذا فإن أي قرار حتى لو تبين لاحقاً أنه خاطئ فإنه كان أفضل قرار ممكن في الوقت الذي تمت لحظة اتخاذه.
0 المعلومات مهمة جداً، وأهم ما في المعلومة هو التفاصيل، حيث أننا كلما عرفنا عن تفاصيل شيء ما أكثر وأكثر زادت قدرتنا على الحكم عليه بشكل سليم. مثلاً لو تحدثنا عن مشروع تجاري، فكلما توفرت معلومات وتفاصيل أكثر كان لدينا القدرة على دراسة هذا المشروع والتوثق من انتاجيته أو فائدته أكثر، حيث أن التفاصيل تجعلنا نستطيع أن نقرر ما يناسب خصوصية كل وضع أكثر وأكثر.
0 أحياناً تكون معلومة صغيرة- وقد تبدو تافهة في حينها– أنها أهم ما في تفاصيل موضوع ما.
0 كلما كبرنا أكثر تعلمنا أكثر، زادت خبراتنا أكثر، أصبحنا أكثر نضجاً وقدرة على فهم الأمور وتحكيمها أكثر.
0 كلما كبرنا سنبقى نخطئ فهذه صفة إنسانية وثيقة وتميز إنسانيتنا.
0 المشكلة تكون أحياناً ليست بالخطأ لكن بتكراره، لذا من المهم معرفة سبب عدم الاستفادة من الخبرة والتجربة.
0 كثير من الأشياء نقول عنها بأنها خطأ في وقت ما لكنها كانت صحيحة في وقت آخر.
0 العودة لتذكر الأخطاء السابقة يجب ألا يكون بهدف الندم، إنما للاستفادة من الأخطاء وأخذ العبرة.
0 إذا عدنا للماضي وللندم على الماضي فنحن بصراحة نضيع وقتاً ثميناً بالحاضر للبكاء على الماضي، وبالتالي نلغي جزءاً من عمل أو وقت مهم للمستقبل، إضافة أنه كلما عاودنا الرجوع للماضي فإننا ندور في حلقة فارغة لا سبيل للتغيير والفكاك منها بالحزن إنما بالعبرة والموعظة، فلنتخلص من عقدة الذنب أو جلد الذات اليومي.
إذن ما دمنا في هذه اللحظة فلماذا لا نعود للذكريات الجميلة أيضاً ونذكر إضافة لبعض الذكريات المحزنة ذكريات مفرحة، وجميلة، ذكريات تجعلنا نشعر بالقوة، ونشعر بالفخر، مهما كانت هذه الذكريات بسيطة؟.
ولنتذكر سوياً مع بعضنا، كم من حدثٍ سيء مرّ في حياتنا؟ عشرون حدث؟ ثلاثون...؟ في مقابل ذلك كم حدث جميل وكم ذكرى سارة في حياتنا؟ إذا لم تعادل الأحداث التي اعتبرناها سيئة ومزعجة فإن الذكريات الجميلة ستكون أكثر عدداً.
وحتى نكون أكثر واقعية، فقد يحزن أحدنا أو يتذكر بعض الأحداث السيئة أو المزعجة وهذا طبيعي جداً، فما نقوله هنا أننا بشر ولنا مشاعرنا وطرق التفكير التي تميزنا، لكن المهم أن نتمتع بالقوة والقدرة على السيطرة، وليس معنى ذلك أننا لا نحزن، لكن أننا نستطيع أن نسيطر على أنفسنا وآلامنا بشكل أسرع وبقوة أكبر وبقدرة أفضل، فمن الطبيعي أن الحزن عبارة عن أحد الطرق لتفريغ المشاعر وتقبل الواقع، كما أنه طريقة لتخيل كل السيناريوهات الممكنة لأي حدث بحيث نكون أكثر قوة عند الخروج من الكهف المعتم لحزننا بشكل أكثر قوة وتقبل أكبر للواقع.
ما الفائدة المرجوة من كل ما ذكرناه:
0 إذا كان لزاماً على أي منا أن يتخذ قراراً في هذه اللحظة، فيجب أن نضع في ذهننا أننا لن نندم على هذا القرار الذي سنتخذه الآن ونحن في كامل قوانا العقلية، وكامل قدرتنا على اتخاذ القرار أو رفضه.
0 من المهم أن نفحص بعض التفاصيل الهامة قبل أن نتخذ أي قرار لمعرفة مدى موثوقيتنا من قرارنا.
0 هل مررت بحدث أو أي أحداث مشابهة قبل هذه المرة للحدث الذي ستتخذ قرارك بشأنه الآن؟، إذا كنت قد مررت بخبرة سابقة، فما الذي ستستفيده من خبرتك السابقة ونتائجها؟.
0 هل هناك من يستطيع مساعدتك من ذوي الخبرة في مجال القرار الذي تريد اتخاذه، أو هل من الممكن أن تستشير أحداً تثق برأيه؟.
0 ومن المهم أن تتذكر أن لك خصوصية واختلافات من خلال قدراتك وفرديتك، فقد يكون ما تريده يناسبك ولكنه لا يناسب غيرك لاختلاف في القدرات أو المعرفة أو الشخصية، أو قد يكون نفس الحدث مختلفاً، أو أن تفسيره مختلف لدى الآخرين.
وهذا يذكرني بصديقي أثناء دراستي الجامعية؛ فقد حضر صديق لي ليستشيرني حول نيته خطبة إحدى زميلاتنا من نفس القسم، قال لي كم أنه معجب بها، لكن بقية الأصدقاء لا يشجعون ذلك ويقولون أنها غير مناسبة له، وأنه لن يستطيع الاتفاق معها، فأخبرته أن الزملاء حكموا عليه من خلال رغباتهم وشخصيتهم هم ومن خلال ما كانوا سيقررون هم، إذن فقد حكموا بالأمر بناءً على ما يريدون ونسوا صديقنا وتجاهلوا خصوصية شخصيته.
أيضاً، هم لا يعرفون زميلتنا هذه بشكل كافٍ فعلاً يمكنهم من الحكم عليها بموضوعية، فقد حكموا عليها بتسرع من خلال الظاهر فقط، ومن خلال تجاربهم الشخصية مع أخريات، أو من خلال التوقعات المتاحة للسلوكيات الظاهرة وبعض المواقف التي لا يستطيع الشخص فعلاً أن يتنبأ بها، أو أن يحكم على شخص ما حكماً قاطعاً بسببها، وبالتالي فإنهم حكموا على زميلتنا بشيء لا ينطبق عليها ومتسرع جداً، ثم أنهم حكموا على الأحداث كما مرت معهم فلو أنك سألت صاحب أحد المشاريع على دراية ويفهم تفاصيل عمله ومجتهد فيه عن طبيعة هذا العمل فسيقول أنه عمل ممتاز وينصح به، لكن إذا سألت آخر كان قد فشل في نفس المشروع فسينتقد هذا العمل ويحذر منه، رغم أن فشل الأخير قد يعود لعدم درايته بطبيعة هذا العمل بشكل كافٍ، أو لجهله وعدم قدرته على التكيف مع هذا العمل، أو لضعف ما، وهذا قد حال دون قدرته على متابعة العمل أو التطور فيه.
ونعود لقصة زميلي الرائعة، حيث أنه قرر أخيراً بعد أن أستمع لوجهات نظر الآخرين وأخذ ما وجده موضوعياً منها بعين الاعتبار، ثم حكم عقله جيداً، وسأل نفسه: هل هي فعلاً من تصلح كشريكة حياته؟ ثم توثق من ذلك رغم أنه قال لي عندها أن بعض الخوف والتشتت والشك يراوده لكنه قرر خطبتها، وقد مضى الآن على زواجهما أربع سنوات، وحين أسأله عن حياته الزوجية، فإنه يقول أنه لم يكن هناك من سيناسبه ويفهمه كما هي زميلتنا التي أصبحت زوجته! وأنه عندما يتذكر معارضيه الآخرين فإنه يكون ممتناً جداً لقدرته على القرار بموضوعية وثقة بقدرته ورأيه الشخصي حتى لو كان هناك بعض الخوف أو التشكك، فهذا طبيعي عند الرغبة باتخاذ أي قرار مهم أو مصيري، كما أن تحكيم الخلفية التي جعلت الآخرين يقدمون له النصائح المتحيزة وغير الموضوعية تكون مفيدة في التوثق من القرار.
إذن، من المهم ألا نجعل من ذكريات حياتنا ناراً نحترق بها كلما تذكرناها، فكما يوجد في ذكرياتنا ما يؤلمنا، فإنه يوجد ما يفرحنا ويجعلنا ننظر للحياة بشكل أكثر إشراقاً، والمهم أن نستفيد من تجارب الماضي أكثر مما نجعلها تحزننا، ولنتذكر دائماً أن خبرتنا هي النتاج المنطقي والصحيح لتراكم اخفاقاتنا وفشلنا، وما تعلمناه الآن يعكس في بعض الأحيان ما أخفقنا به سابقاً، وأن معظم الناجحين والمميزين في الدراسة أو العمل أو الحياة العملية هم من شريحة لا يستهان بها ممن قاسوا وواجهوا صعوبات لا تعد ولا تحصى في الحياة، فكفانا ظلماً لأنفسنا وتقريعاً لها، فإن الحاضر والمستقبل أوسع من الماضي بكثير، وما نملكه هو اللحظة التي نعيشها، فهذه اللحظة التي بين أيدينا هي مفتاح النجاح للمستقبل، إذا أردنا النجاح فعلاً.
واقرأ أيضًا:
التوقعات / التدرج / ما هو الغضب؟!