"زى النهاردة" فيلم بديع ومقطوعة سينمائية راقية ترتسم ملامحها الأساسية على يد المخرج الواعد عمرو سلامة وهو صاحب القصة كما قام بالمونتاج أيضاَ، وهو تعدد مواهب ملحوظ وإن اعتبره البعض رغبة في السيطرة على كل أدوات السينما، وإن كنت أعتقد أن الفيلم السينمائي يعتمد على المخرج، فهو صانع الفيلم الحقيقي وصاحب الرؤية والمسئول عن الشكل النهائي الذي يعرض على الشاشة العريضة الساحرة (السينما).
وتندهش حين تعلم أن عمرو سلامة مع أدواته السينمائية التي أجاد استخدامها ببراعة لم يدرس السينما وإنما اعتمد على مشاهداته وقراءاته في المجال السينمائي.
وكنت مارست النقد الفني على استحياء في سنوات سابقة اعتماداً على مادة النقد الفني والأدبي التي درستها بالفرقة الثالثة بكلية الإعلام بجامعة القاهرة والتي أفادتني كثيراً في تكوين رؤية ما عما أشاهد وأقرأ، فكنت أكتب بعض مقالات النقد الفني لأفلام أجنبية بمجلة هو وهي الشبابية منذ 5 أعوم تقريباً، وراودني الحنين لهذا النوع من الكتابة بعد توقف دام لسنوات وإن استطاع فيلم "بحب السيما" الجريء والمختلف أن يجذبني لكتابة مقال عنه. وأثار مقال عودتي للنقد الفني هذا نقاشات أسعدتني وأشعرتني أني لا أزال قادرة على كتابة هذا النوع من المقالات.
وعودة لفيلم "زى النهاردة"، فهو بطولة بسمة وأحمد الفيشاوي والمتألق دائماً آسر ياسين، ونبيل عيسى وأروى جودة.
ولن أخوض في تفاصيل وأحداث الفيلم كي لا أفسد على القارئ متعة مشاهدته بانتباه واندهاش حقيقيين لاختلاف القصة وإحكام السيناريو وروعة الحوار والفكرة العميقة التي نعرفها ولا نستطيع تنفيذها بسهولة، وهي الاستسلام للقدر ولإرادة الله، فكل ما نفعله لنغير الأحداث والمواقف فكل هذا الذي نفعله هو أيضاً قدرنا.
ومن الجمل التي تركت أثرها في نفسي تلك التي جاءت على لسان المبدع عبد العزيز مخيون موجهاً حديثه لبسمة التي جاء أداءها ضعيفاً وغير متناسب مع الانفعالات المطلوبة للشخصية التي تجسدها: لو بصيتي وراكي هتخبطي في اللي قدامك، بصي قدامك.
جملة بديهية ولكنها صعبة التنفيذ يذكرنا بها الفيلم في قالب فني متميز وأداء خبير من ممثل متألق مثل عبد العزيز مخيون.
المدهش أن أداء نبيل عيسى وهو في الأصل موديل إعلانات وليس ممثلاً محترفاً جاء طبيعيا ومقنعا فبدا ممثلا صاحب تجارب سينمائية كثيرة وهو ما يفتح الباب أمامه واسعاً لتجارب سينمائية مستقبلية،وفي المقابل أدهشني أحمد الفيشاوي بأداء تقليدي ودون المنتظر من ممثل موهوب مثله، فكان بإمكانه تقديم ما هو أفضل، مثلما فعل في 45 يوم الذي قدم فيه أداءً مميزاً.
أما آسر ياسين فقدم دور المدمن بحرفية وإقناع فائقين، يعكس الحياة الحقيقية للمدمن بصدق وواقعية مثيرة للإعجاب، وأقول هذا مع اقترابي من عالم المدمنين في موضوع سابق حاورت فيه مدمنا وعرفت منه كيف يكون عالم الإدمان الذي لا يعرفه الكثيرون.
لذلك أعجبني وأسعدني أداء آسر الذي نقل بصدق هذا العالم غير واضح الملامح لغالبنا.
وكانت صديقته أروى جودة جيدة إلى حد بعيد، فقدمت دور المدمنة بطبيعية والتي فشلت في التخلص من الإدمان بعد حملها من صديقها (آسر ياسين)، فأقدمت على الانتحار.
وحبكة الفيلم محكمة، وعلى طريقة الأفلام الأمريكية يتوصل المشاهد للحقيقة في آخر لحظات الفيلم، فتأتي الصدمة المطلوبة له، لتبقى أحداث الفيلم عالقة بذهنه فترة طويلة.
وهو ما تفتقده كل أفلام المرحلة الحالية التي تعتبر إهداراً لشرائط التصوير السينمائي كما وصف ليوناردو دي كابريو حال السينما المصرية الراهنة وهو وصف موجع ولكنه حقيقي للأسف.
وجاءت الصورة بظلالها الزرقاء والسوداء متناسبة تماماً مع أجواء الفيلم التي تميل للسوداوية وظواهر ما وراء الطبيعة.
أما أغنية "لو تسمحي لي" لهاني عادل (أحد أعضاء فريق وسط البلد الغنائي المتميز) فكانت نسمة رقيقة وسط أحداث متلاحقة مثيرة، فخففت من لهاث المشاهد أمام الفيلم، وهو صاحب الموسيقى التصويرية أيضاً.
ولم يخلو الفيلم من بعض اللمحات الكوميدية الخفيفة التي لم تؤثر على الجو العام للفيلم وإنما قللت بدورها من توتر المشاهد أثناء جلوسه في دار العرض متلهفا لنهاية الأحداث.
وأعيب على الفيلم تقديمه لصورة أستاذ الجامعة التي يعتبره الجميع مجنونا لاختلاف تفكيره ومحاولة تفسيره لأمور غامضة وصعبة الفهم، فهو يعد كتاباً بعنوان "التاريخ يعيد نفسه"، فقدم الفيلم صورته بالشكل التقليدي ، الدكتور المتجهم منكوش الشعر الحاد النظرة المحملق دائماً.
استمتعت بمشاهدة سينما مختلفة راقية وأدعوكم لمشاهدته، والنقاش حوله بعدها، وانتظر المزيد من المخرج متعدد المواهب، وأشفق عليه من سوق سينمائية تهيمن عليها أفكار تجارية سفيهة.
24/11/2008
واقرأ أيضًا:
يوميات ولاء: حكايتي مع أول سيجارة / للرفيق الإلكتروني وجوه كثيرة / عن أي حب يتحدثون؟