برغم محاولاتي المستمرة طوال السنوات الماضية دون جدوى أن أتخفف من أعباء مجانين إلا أنني أجد الساعات التي أقضيها في القاهرة في عيادتي صعبة منذ أن انقطعت عنها خدمة الإنترنت... يعني انقطعت عني خدمة متابعة مجانين لجزءٍ من الأسبوع... ومتابعة مجانين تعني الكثير الذي أصبحت وأمسيت فيه سنوات خمس.... متابعة ردود المستشارين كل على نصيبه من الاستشارات وتذكير من نسي منهم أن عليه إجابات.... ومتابعة المشاركات والمتابعات وإرسالها إلى مستشاريها المسئولين فضلا عن الاطلاع الأولي على المدونات والمقالات والإبداعات التي تصلنا عبر بريد الموقع الإليكتروني أو عبر الموقع نفسه... ثم متابعة المنتدى المتعب دائما... وأبدا على ما يبدو والذي لولا أن تطوع أخي الأكبر أ.د.مصطفى السعدني بحمل عبئه لتخليت عن مجانينه... المهم!
كأنها أصبحت خبرة جديدة أن أعيش أوفلاين (خارج الإنترنت)... فهل إلى هذا الحد يعتاد الإنسان الوجود أونلاين (على الإنترنت)؟؟ وهل يحدث هذا لي لأنني أدير موقعا عريض الصفحات متعدد الأبواب والأقسام أم أنه يحدث لكل القاعدين فترات طويلة على الإنترنت بغض النظر عما يفعلون على الشبكة؟
وصف لي بعض مرضاي إدمانهم البحث على الإنترنت وتأملت في السلوك المدمن فوجدته رغبة في المعرفة عن شيء تتطور إلى رغبة في معرفة أو إمكانية معرفة كل شيء عن ذلك الشيء! يا لها من نشوة لكنها أحيانا إهدارُ وقت وطاقة... الحمد لله أنني مقل في استخدامي لمواقع البحث إلى حد ما... باستثناء ما يتعلق بالطب النفسي وما يخص عملي.
لكنني أجد فرقا كبيرا بين قراءة بحث علمي وأنا أونلاين وقراءته وأنا أوفلاين... فكثيرا ما كنت آخذ جملة أو كلمة وأضعها في محرك البحث فأكسب كثيرا من المعرفة بالموضوع.. بينما أنا الآن هنا حبيس وجهة نظر الباحث...... أيا كان لابد دائما أن يكيف المرء نفسه على الحياة أوفلاين... ولابد أن يذكر الإنسان نفسه وهو أونلاين بأن الإنسان أصله أوفلاين حتى لا يتعب في المستقبل عندما يقع في مثل ما وقعت فيه من ظروف!
لا أنسى شعوري مرة عندما توهمت ضياع هاتفي المحمول أثناء مؤتمر الجمعية العالمية للطب النفسي في مصر سنة 2005.... اتصلت فعلا بالشركة وطلبت إيقاف الخط... وكان لي ما أردت... ثم لم يكن سهلا ما قضيته من ساعة ونيف دون محمول كم مرةً فكرت في أن زوجتي ربما تحتاج الاتصال بي وربما سكرتيري السابق أستاذ يحيى صلاح... وهكذا وهكذا.... ثم كان أن وجدت المحمول في جانب خفي من حقيبة المؤتمر انزلق المحمول الصغير إليه ولم أنتبه وبقيت بعدها أكثر من نصف ساعة حتى استطعت استعادة البقاء أونلاين لكن على المحمول... أتذكر أيامها أنني كنت لا أغلق محمولي أبدا وكان يزعجني من ابن عبد الله أنه يفعل....
تذكرت عندما أوقف خط هاتفي المحمول لخطأ عند الشركة مقدمة الخدمة واستمر ذلك 36 ساعة لأسباب تأخر المندوب وغايته أنني وجدت نفسي مضطرا للاتصال بكل الذين يهمني أن يصلوا إلي وقتما أرادوا من رقم مجانين لأقول لهم لا تطلبوني على رقمي الخاص فهو الآن متوقف.... غريب جدا أنني تحولت إلى هذا الشخص الذي لا يستطيع الاستغناء عن الاتصال عن البقاء أونلاين على شبكة المحمول رغم أنني من أناس عاصروا التليفون الأرضي غير متاح في أماكن كثيرة في البلد وعشت في ذلك حتى حصلت على الدكتوراه... لم تكن من وسيلة اتصال بيني وبين زوجتي طوال ساعات عملي كنائب طب نفسي ثم كمدرس مساعد ثم كمدرس لمدة سنتين ربما كل هذا وكنت أنا أوفلاين لست موجودا على شبكة المحمول فما الذي جرى وهل الذي جرى لي جرى للآخرين؟؟؟ الحقيقة نعم هذا حدث!
كيف تحولنا كآدميين يتواصلون وجها لوجه إلى متواصلين ومعيدين على بعضنا البعض فقط برسائل ومكالمات المحمول، ليس هذا فقط نحن أو أغلبنا أصبحنا لا نستطيع الذهاب في مشوار –حتى الذهاب إلى المسجد- دون اصطحاب التليفون المحمول؟ وهكذا أصبحت طاقة تواجد الإنسان وقدرته على الاتصال بغيره في غير مكانه مطلقة -أو تكاد فلا نزال عاجزين عن الاتصال بالميتين أو بالكائنات الأخرى- كذلك فإن علاقة البني آدم بالمعلومات والأخبار تلتهم اهتمامات البني آدم وتخترق كل حياته... ويكتشف نفسه فجأة عاجزًا عن الاستغناء..... لا تكاد تغيب عن عيني نظرات الابنة مريضة الانحراف السلوكي التي تحرم من محمولها لأنها تكلم أولادًا وهي تستعطفني لأطلب من أهلها السماح لها باستخدام المحمول.... وبعضهن تهددن بأن سأسرق محمولا... واثنتان اعتبرتا الحرمان من المحمول تنطبق عليه الآية لا يكلف الله نفسا إلا وسها وبالتالي هي في محنة تبرر لها سرقة محمول أي شخص واستخدامه للاتصال وإعادته حتى إن لم ترى سرقته مبررة كمحمول أخيها مثلا أي من أفراد أسرتها.... لا شك أن إدمان المحمول سيصبح مشكلة يوما ما مثلما أصبحت الإنترنت....
أنا الآن أغلق المحمول ليلا... وأعطيه لآخرين ليبقى معهم أثناء الجلسات... وأحاول التخفف لكن يا ترى نجحت؟ ويا ترى يمكن أن أبقى طويلا أوفلاين بعيدا عن النت وعن مجانين؟؟
واقرأ أيضًا:
حذاء منتظر الزيدي ووجه بوش / ساعات دون كهرباء