مساء الأحد تاريخ 14/12/2008 كنتُ في سيارتي قادما من بيروت وقد تجاوزت الحدود اللبنانية السورية بجوار منطقة صافيتا باتجاه قريتي عندما وصلتني رسالة على هاتفي المحمول من الأخت والصديقة العزيزة الأستاذة سلمى القدور جاء فيها: (عرضت قناة الجزيرة الآن أحد الصحفيين العراقيين يقذف الرئيس الأمريكي جورج بوش بحذائه أثناء مؤتمره الصحفي في العراق) على الفور اتصلت بها لاستفهم الأمر.
قالت وعلائم الفرح تصلني عبر نبرة صوتها: (دكتور... صحفي عراقي يقذف بوش بحذائه على مرأى ومسمع العالم أجمع... لقد شفى جزءا مما يجول في نفسي....... دكتور برأيك كم يساوي هذا الحذاء... ألن يكون أغلى حذاء في العالم... دكتور... ألم يصرخ الحذاء بأي ذنب أضرب؟؟...)..
وقبل أن أصل إلى القرية كانت عديد الاتصالات من الأصدقاء والأقرباء تهافتت عبر هاتفي تزف إلى مسامعي الخبر؟...
وصلت القرية ومع التحية على والديّ أمطرتني والدتي.. (ألم أقل لك أن بوش سيداس بالنعال مهما طال الزمن... اليوم تلقى أول الغيث... صحفي عراقي ضربه بحذائه... أمام العالم أجمع).. وقبل أن أصل إلى سرير والدي ورغم وضعه الصحي الحرج كان أول كلمة قالها لي (الحمد لله.. لقد شعرت بتحسن كبير وارتحت عندما شاهدت بوش يُضرب بالحذاء..)..
ثم شاهدت لقطات قذف الصحفي منتظر الزيدي للرئيس الأمريكي جورج بوش الابن بفردتي حذائه خلال المؤتمر الصحفي الذي عقد في بغداد مع رئيس الوزراء العراقي المالكي..
وبدأت أتابع ردود الفعل على تصرف الزيدي... تخالطني مشاعر من قلق وحذر وفرح..
سألتني والدتي ليس من عادتك الصمت، في مثل هذه المواقف!!.. لماذا لم تقل شيئاً... ألم تشعر بالفرح؟!... أمرك عجيب يا عبد...
قلت: ينتابني شعور كبير بالفرحة... لكن ينتابني أيضا الكثير من الحذر والقلق.... اعذريني أحاول التفكير في الموضوع من مختلف جوانبه... فالأمر ليس مجرد حذاء قذف في وجه جورج بوش (هذا المخلوق الذي لم أجد في قواميس اللغات لفظا يصفه...)... الموضوع يا أمي ليس حذاء قذفه المنتظر وانتهى... إنه حذاء أمة بأكملها تلعن بوش..
بشكل أو آخر تصرف الزيدي لا يعتبر فقط قذف حذاء في وجه طاغية إنما هو قبل كل شيء رسالة قوية واضحة وصريحة....، وهذا ما سيجعل من هذا الحذاء رمزا.......
اعذريني أحاول قدر الإمكان قراءة ما قاله الصحفي... فمع قذف فردة الحذاء الأولى رافقها الزيدي صارخا في وجه بوش بعبارة "هذه قبلة الوداع من الشعب العراقي أيها الكلب" حنى بوش رأسه متفاديا أن يصاب.. بادره الزيدي بالفردة الثانية صارخا معها: "وهذه من الأرامل واليتامى والأشخاص الذين قتلتهم بالعراق".. هذا يدل على أن الزيدي كان قد خطط لذلك وتصرفه لم يكن وليد لحظة أو عفويا... انه تصرف مدروس ومخطط له..
لم يعكر فرحتي المشوبة بحذر وقلق.. إلا الأعراض التي بدأت تظهر بسرعة على والدي وهي أعراض وذمة رثة حادة.. كان ضغطه الأعظمي 230 ملم/ز والزلة التنفسية شديدة، مع اقياءات مدماة....
لا أدري كيف وصل الملح إلى طعامه رغم المراقبة الصارمة للوالدة، ومتابعته في المنزل على مدار الساعة من قبل ممرضتين.. وبإشراف طبي صارم من قبل طبيب القلبية وطبيب الغدد.. (وكان أجري له عمل جراحي إسعافي لنزف دماغي قبل أشهر قليلة).. هذا إضافة إلى أنه مريض سكري وقبل كل ذلك يمكن أن أقول بأنه من النوع الذي يمكن أن ندعوه بالمريض الصعب..
على جناح السرعة أسعفت والدي.. والحمد لله بدأت حالته تميل نحو الاستقرار مع ساعات الفجر الأولى في المشفى..
ظهر يوم الاثنين 15/12/2008 يتصل بي الصديق الشاعر أحمد حسيب اسعد للاطمئنان على صحة والدي... ثم يقرأ لي ما نظمه من أبيات جاء فيها:
سدد حذاءك وابدأ مــــــــــوسم القُبَلِ
مع بوش والطم مُحَّياهُ على عَجَـــــلِ
فبوش مسـخٌ أخــــــــــو قردِ بـه خَبَـَلٌ
فابصق عليه بــــــــــلا رفق ولا خَـجَلِ
واثأر بصدق لمن في حـــــــــربه قُتِلوا
ولليتــــــــــــامى ومظلـومين واحتفِـلِ
ما كُنتَ منتَظراً إذ أنتَ منتظــــــــــــــرٌ
لموقـف بلهـيبِ الحــــــــــق مُشــتَعِل
أثلجتَ صدر الملايين الأولى قهــــــروا
فليحمكَ الله مــــن قهر ومــــن فشـل
زها العــــــراق وقـد أعـــلنتَ موقفــــه
على شـجاعة مقـــدام بــــــــلا وَجَـلِ
هي الكرامة لا ترضى السكوت على
ذلٍّ وعــــــارٍ فشـبت فيك كـــــالشـعل
يسمو بـــك العــز في الدنيـــا مقاومة
فيزدهي فيـك مجد العُـــــــــــــــرْب بالمثـل
وفي المساء استوقفني مشهد طفليّ وهما يقذفا التلفاز بخفيهما كلما ظهرت صورة الرئيس الأمريكي جورج بوش... وطلبا إلي هذه المرة عدم تأنيبهما وتعنيفهما –كما كنتُ أفعل- على استخدامهم الحذاء كأداة قذف ولعب مع أطفال الجيران في البناء المقابل..
وفكرت كثيرا... أليس من الطبيعي ردة الفعل الجماهيرية على امتداد العالم، ليس العربي والإسلامي فقط بل على امتداد العالم أجمع، لهذا التصرف...
فجميع أمم المعمورة في حالة من الشعور بالجراح المثقلة والأذية الهائلة والغضب العارم والضغط الهائل والقهر ونتائج القتل والتنكيل التي عانى منه عشرات الملايين...
نعم.. من الطبيعي أن تعتبر الجماهير العربية عامة والعراقية خاصة أن الصحفي العراقي منتظر الزبيدي حقق شيئا غير مسبوق من خلال تصرفه الذي يعتبر إهانة قوية لجبروت الطاغوت القابع في البيت الأسود جورج بوش.. وشفى الزيدي بتصرفه هذا جزءا من الآلام وأعاد شيئا من الكبرياء والأنفة.. ليس فقط للعرب وإنما لكل إنسان يمتلك أدنى مقومات الشعور الإنساني..
ومن الطبيعي أن يغدو منتظر الزيدي مشهورا على المستوى العربي والعالمي.. وأكثر من ذلك بعض محلات الأحذية أصبحت تحمل اسم الزيدي وهذا ما حصل في مدينة حلب شمال سوريا وفق ما علمت، وليس من المستغرب أن تظهر صور حذاء الزيدي على وجه الرئيس الأميركي بوش في يافطات المحال التجارية، وفي الساحات العامة وربما يقام تمثال أو أكثر لحذاء الزيدي يصفع وجه بوش... وربما... وربما... وهاهي بدأت تظهر الآن على الشبكة العنكبوتية مواقع لقذف حذاء الزيدي على وجه بوش..
http://www.sockandawe.com
http://www.kroma.no/2008/bushgame
وسنلاحظ خلال السنوات القليلة المقبلة أنواع كثيرة من الفنون والتفنن حول هذا التصرف وهذا الموضوع.. وبغض النظر كيف سيتم تخريج تصرف الزيدي وفق أروقة وكواليس الساسة والقضاء على أنه تصرف شخصي نتيجة ثأر خاص أو ما شابه... وبغض النظر عن ترهات البعض حول سلامة ملكاته العقلية... (أوليس الحري البحث في الملكات العقلية لمعتوه البيت الأسود جورج بوش.. الذي ادعى أن الله يخاطبه؟... ويقول له ماذا يجب أن يفعل ولهذا يفعل الصواب؟... ولهذا يغزو العراق ضد إرادة المجتمع الدولي. وغيرها... وغيرها.....)..
بصدق لم أجد في كتب التصانيف النفسية كافة، ما يمكن أن يستطيع تصنيف هذا المخلوق الذي يدعى جورج بوش الابن، ولم أجد أبلغ من وصف أبو التصنيف العربي البروفيسور يحيى الرخاوي له بأنه مسخ... مخلوق مسخ مقرف ومقزز.......
مهما قيل... شاء من شاء وأبى من أبى.... منتظر الزيدي عبّّر عن انتماء وشعور إنسان ووطن ومن أجل أبنائه... وتصرفه مهما ترجم وكيفما فسر استطاع أن يفرغ بشكل أو آخر شحنة من الضغط الهائل للإنسان وللمواطن العربي الذي أثقل من الطغيان والجبروت نتيجة المعاناة المريرة والبغض الصريح للعدوان والاحتلال والقتل والدمار والتنكيل والتعذيب..
ويبقى حذاء الزيدي حذاء أمة بأكملها.. إن لم يكن حذاء العالم أجمع..
بتقديري ما تصرفه الزيدي سيجعل الكثير من رؤساء الحكومات والزعماء في عالمنا العربي يفكرون كثيرا قبل عقد لقاء صحفي... وربما يتفقدون من خلال أجهزتهم أحذية الصحفيين... ولا استغرب أن يفرض على الصحفيين انتعال أحذية ليس من السهولة نزعها من أقدامهم.. لكنني أتمنى أن يفكروا قبل استقبال أي مسؤول أو شخصية إن كان شعبهم يرغب حقا أن يطأ هذا المسؤول أو هذه الشخصية تراب وطنهم.
قرأت الكثير عما كتب وشاهدت عبر شاشات التلفزة والنت الكثير من ردود الفعل على تصرف الزيدي.. لكنني توقفت عند قراءات هامة من أهل الاختصاص:
الأولى: للأستاذ الدكتور وائل أبو هندي.. وكانت عفوية كعفوية الصديق العزيز أبو هندي ومترافقة بحذر كعادته أيضا... لكنها عبرت بكل حب عما يجول في نفسه ونفس كل إنسان..
الثانية: لرئيس جمعية أطباء النفس العراقية أ.د. قاسم حسين صالح.. وتميل إلى الإفراط في الدبلوماسية والميل إلى التشدد في التهذيب والعقلانية.. ورغم احترامي لشخصه الكريم وتقديري لقراءاته وتحليلاته النفسية إلا أنني أخالفه وجهة النظر فيما ذهب إليه.. وتذكرت معلومة كنت علمتها من بعض الزملاء والأصدقاء العراقيين أثناء انعقاد مؤتمر اتحاد الأطباء النفسيين العرب في دمشق 23.08.2008-21 المثل الشعبي العراقي الذي يقول (العراقي.. ايدو والقندرة) دلالة على مدى السرعة والسهولة التي ينزع فيها العراقي حذاءه ليهين من يعتدي عليه..
الثالثة: لأستاذ الأجيال أستاذنا عميد الطب النفسي العربي البروفيسور يحيى الرخاوي (أمد الله في عمره).. وكانت كعادته كلمة حق وحجة لا يخشى لومة لائم فيها، وفيصلا.. ووضع من خلالها النقاط على الحروف ببلاغة ورؤية وبصيرة قل أن يجاريه فيها أحد.
الرابعة: للأستاذ الدكتور محمد المهدي.. وكانت تحليلية دقيقة بامتياز وضح من خلالها الرؤية الحقيقية للحدث..
وتذكرت أيام كان جدي (رحمه الله) يطلب إلي وأنا طفل صغير بعمر لم يصل إلى السنوات الأربع.. يطلب إلي الوقوف احتراما لاستقبال الضيوف مع أبيات ارددها ترحيبا بهم مطلعها:
(يا ضيفنا لو زرتنا لوجدتنا نحن الضيوف وأنت رب المنزل)
هكذا نعم نحن العرب نحترم الضيف ونكرمه... ومن البديهي أن لا يعتبر بوش بأي شكل من الأشكال ضيفا.. فمتى كان القاتل والمحتل والمسخ ضيفا...
ثم لم أعرف ولم أقرأ عن أي حضارة وفي أي مجتمع بشري عرف أو يمكن أن يعرف... اعتبرت المحتل والقاتل والكاذب والمسخ ضيفا...
لهذا... أقول سلمت يداك يا منتظر...... الحياة موقف... وتصرفك موقف عز وشرف... بغض النظر عن كل الترجمات والتأويلات والتفسيرات والتداعيات..
وكل ما يمكنني قوله أوجزه:
بأن هذا الحذاء كان شاهدا على مئات الآلاف من ضحايا قتلوا باسم الديمقراطية... وكان شاهدا على تمزيق وتشويه أجساد الأطفال وتشريد والملايين..
هذا الحذاء.. خزَّن في ذاكرته دخان أشجار النخيل المحترقة، ورائحة دماء الأبرياء..
هذا الحذاء.. شاهد دموع الأمهات والأرامل، وشاهد من القنابل ما فاق عشرات الأضعاف ما سقط في على كل من ناكازاكي وهوروشيما..
هذا الحذاء.. تعثر بأشلاء أجساد الأطفال الممزقة نتفا في الشوارع..
هذا الحذاء.. خنقته رائحة النتانة للاحتلال على ثرى أرض الوطن..
هذا الحذاء.. كل ما فعله.. أنه أحب الحرية الحقيقية (وليس الحرية التي يدعيها بوش) والانعتاق من هول ما مر عليه.. فأحب أن يطير.. ليلطم وجه مسخ البيت الأسود الذي تسبب بكل هذه الأهوال..
هذا الحذاء.. هو حذاء أمة طار ليلقي على المسخ بوش تفل (بصقة) البشرية جمعاء..
بيروت 25/12/2008
واقرأ أيضاً:
مؤتمر دمشق لأطباء النفس العرب (3) / حذاء منتظر الزيدي ووجه بوش / الحذاء العظيم / بالجوز بالفرد نفديك يا منتظر / يا جزمة الهنا يا ليتني كنت أنا