نفسي وهذا العيد
نعم إنها مسئوليتي وحياة {الله أكبر}
أعزائي.. احبسوا النفس للغوص أكثر، وشنّفوا الآذان لغناءٍ أصدقْ!
أما بعد..
لاقت هذه المقالة التي نشرتها على العديد من الإخوة والأخوات ردود فعلٍ لا تخرج عن الاستحسان والمجاملة الطيبة مع النذر اليسير من النقد، وكنت دائماً أردد في نفسي ((وأقْتَـلُ ما يَقْـتُل الفِكْرَ مقابلَتُه بالصَّمْت))، فالحمد لله رب العالمين على هذا التفاعل.
لقد أحدثت المقالة ما يدعى بظاهرة التناغم النفسي Resonance، فاهتزاز أوتار نفسي واضطراب مشاعرها قد انتقل إلى الغير لتهتزَّ مشاعرهم أيضاً وتضطرب، وكلٌّ حَسْبَ أوتاره النفسية..
أحببت أن أغني نفسي لنفسي، ثم أحببت أن أسمع غيري غناء نفسي، فالكثير ممن سمع انتشى طرباً بأدبي ورشيق العبارة وتمايلها على الأسطر، والقليل القليل أبعد لذة الطرب عن نفسه ليواجهني مواجهة الناقد ويقول:
((زوجي.. قبل أن يكون العيد.. كانت نفسك..
هل من المعقول أن نسيء فهم ذاتنا أحياناً ونحن نعتقد أننا نغوص في أعماقها؟
هل تسمح لي أن أطلب منك أن تعيد النظر بالذي أفسد عيدك حقاً؟
يا ترى.. أتتقبل مني أن أكون ناقدة.. بالإضافة للزوجة؟
وهل سيتسع صدرك لكلماتي؟ أم أنك ستعترضها بنزعة الرجل؟))
بدايةً ضاق صدري للنقد وخاصةً أنني رجلٌ شرقي تنقده زوجته!، فسلكت -بشكل لا واعٍ- طريق سوء الفهم، ثم بعدها عدت متأملاً فيما كتبت ممحصاً فيه لأقول:
نعم يميل الإنسان -متساهلاً- ليعزو ما يؤلمه أو يحزنه لخارج ذاته، وهو الأهون على النفس، فالإحساس بالمسؤولية الشخصية أمر مرهق للنفس والأسهل أن يُعزى الخلل لشيءٍ خارجي. تأملت كلماتي من جديد لألمح هذا المعنى ، لقد ذكرت في المقالة العبارات التالية:
((.. وبعد جولةٍ في أعماق ذاتي وجدت جملةً من الأمور مرّت بي تركتني هكذا تحت وطئتها حتى الساعة واقفاً أمامها مذهولاً، وهي الآن في قفص الاتهام على أنها أفقدت نفسي تذوق طعم هذا العيد والإحساس ببهجته..))
نعم أنا من نصب قفص الاتهام وحاكم هذه الأمور على أنها هي السبب وراء عدم تفاعلي مع هذا العيد.. وغيّبت عن ناظريَّ مسئولتي الشخصية عن هذا التفاعل..
فلماذا يا ترى كانت مشاعري وما يعتري نفسي تجاه هذا العيد ليست ككلِّ عام؟!
إنه السؤال الذي سأحاول الإجابة عليه، وأصفها بـ (المحاولة) لأن رحلتنا إلى أعماق ذاتنا رحلةً طويلةً وخارطة الطريق معقّدة، فقاع النفس وعمقها وطرق الوصول إليها لا يعلمها إلا خالقها جل وعلا، ((تحسب أنك جرم صغيرٌ وفيك انطوى العالم الأكبرُ!!))..
فهل هذا أنا حقاً؟ ولمَ لم أملك تلك الحالة الروحية الصافية التي تسمو نفسي فيها مع تغريد المآذن ((الله أكبر.. الله كــبر..)) ولم تفعل فعلها في هذا العيد؟! وما بال نفسي هذا العيد؟!
والجواب هو أنني في الفترة الأخيرة وفي زحمة أعمالي ومشاريعي بدأت المسافة بيني وبين السماء تزداد، وأنا أراقب هذا الازدياد وأواسي نفسي وأعلل ذلك بسبب أعمالي وانشغالي، ولكن العلاقة مع الله ربي وخالقي يجب أن تكون هي الأعلى والأسمى، لذا لم يكن صدى تكبيرات العيد في نفسي يدوّي، لأن عملي كبير وعلمي كبير و.. و.. ولكن الله أكبر!!..
عبارة ((الله أكبر)) نرددها في كل حركة من حركات الصلاة لنترك مشاغل الدنيا ونكون مع الخالق لخمس دقائق في خمس مرات من اليوم، وهذه الفترة هي فترة استرخاءٍ وراحةٍ في زحمة هموم اليوم إضافةً لأهميتها الروحية. لكن الكثير الكثير منا لا يجد معنى الله أكبر ليس في حياته وحسب بل وحتى في رُكيْعَاتِه تلك، أي في العشرين دقيقة التي يقضيها أحدنا في صلاة يومه... فأنى لتكبيرات العيد أن تهزَّ أوتار نفسٍ لا تعيش حياة ((الله أكبر))!!
إذا أردت أن أجد جواباً لسؤالٍ تردد في المقالة ((لمَ كانت هكذا نفسي هذا العيد؟!)) سأنظر بمسؤوليةٍ كاملةٍ لنفسي قبل هذا العيد.. لأعلم تلك الحقيقة.. ونحن كأمة لا نفعل كما يفعل غيرنا بأن نصنع فرحنا صنعاً، بأن نصنع البهجة خارج أنفسنا بالاحتفالات الباهظة المبهرة الماجنة والنساء والخمور، لندخل بهجة الخارج إلى أنفسنا، بل لابد أن يكون فرحنا في الداخل حتى يظهر للخارج.
ولنأخذ مثالاً يوضح الفكرة، إن حفلة توزيع النتائج في المدرسة تكون أسعد ما تكون للطالب المجد، وأحزن ما تكون للطالب الكسول، وقد تكون الحفلة بسيطة ولكن مصدر الفرح هو فخر المعلم بتلميذه المجد والتلميذ بثمرة جهده، ومهما صُنع من مظاهر للفرح في ذلك اليوم فلن يؤثر على مزاج الطالب الكسول.
فعيد الأضحى ليس للحجاج والأطفال وحسب بل هو كغيره من أعيادنا يتوّج فترة عبادة، فمن جد واجتهد في رمضان يجد لذة رائعة لعيد رمضان، ومن حافظ على عهد رمضان وعمل العمل الصالح بعد رمضان وزاد في الهمة أيام العشر، يجد لذةً ما بعدها لذة في عيد الأضحى وينحر بحق شهوات الدنيا في محراب الإيمان قبل أن ينحر هديه..
علماً أن العمل الصالح بالمفهوم الواسع هو كل عملٍ تعبديٍّ أو غير تعبديٍ يخدم واجب الخلافة على الأرض والأمانة التي حمّلنا إياها ربنا لحفظ هذه الأرض وعمارها بإخلاصٍ لله وإتقانٍ على سنة رسوله عليه الصلاة والسلام..
ومن الردود التي وصلت..
- رد الأستاذ الدكتور يحيى الرخاوي الطبيب النفسي المعروف، قال فيما قال:
((ثم فتحت أخيرا هذا البريد الحزين من الزميل د.ملهم زهير الحراكي من سوريا..))
فقلت في نفسي: لقد أحزنت الرخاوي يا ملهم في العيد كما فعلت بكل من قرأ مقالتك!!، علماً أنني أخّرت إرسالها لآخر يومٍ في العيد..
وتأملت بتأمل الرخاوي في حدث الموت عبر كلماتٍ بعثها حرّكتها وتُحرّكها في نفسنا دائماً سماعنا لموت صديقٍ أو قريبٍ، ولكن ما حال هذه الكلمات لمّا تخرج من فكر ونفس رجلٍ كالرخاوي.. فلنتأمل هذا التأمل... ((لم يعـِدنا أحد بالخلود، ولا هو مطلب جيد (في هذه الدنيا)، ففيم المفاجاة؟
الموت حق، لكن الفقد صعب ولا كلمات تفيد، فلماذا العــزاء؟ وفيمَ التقصير؟))
ثم أردف قائلاً:
((كل ما نملكه ونحن ما زلنا أحياء –غالبا- ولا نعرف من كل ما حدث إلا ما حدث هو أن نحسن فهم وحمل مسئولية الدعوات الكريمة في مثل هذه الظروف ونحن نردد: "اللهم لا تحرمنا أجرهن، ولا تفتنا بعدهن، واغفر لنا ولهن")).
نعم حمل المسئولية هو الهدف من تبعات مقالتي السابقة، وهاهو الرخاوي يتبعها بتعريفٍ لهذه المسئولية:
((بأن نحسن انتماءنا للحياة أعمق، وأن يدفع من يقدر دينه لمن لا يستطيع ، وأن نستلهم الموت لتكون الحياة كما أرادها الله لنا وبنا، فلنحترم الفقد، لكن لا نستلم للعدم.
ولله ما أخذ وله ما أبقى وهو مع الصابرين الفاعلين الحاملين أمانة من رحل، ومن بقى، ومن يأتي بعدنا أبداً)).
يا لها من كلمات!!
الصابرين الفاعلين الحاملين للأمانة تجاه حفظ إرث الماضي والتعامل الفاعل مع مشاكل الحاضر والتحضير الجيد للمستقبل.
نعم لقد تعلمت مع أمتي وللأسف درساً بالغاً من حذاءٍ صنع أكثر مما صنعته الكثير من العقول العربية!!
لـمّا قرر عقل هذا العربي العراقي أن يرمي بحذائه كافراً بأحد الآلهة لبعضٍ من البشر (بوش))!!
إنه درسٌ بليغ للأمة يجب أن تتعلم منه الإيجابية والفاعلية واستغلال الفرص للتعبير عن رأيها ولو بحذائها.. وليس لأن تتعلم من أين اشترى الزيدي حذاؤه لتشتري منه!، أو أن تقلّد الزيدي برمي الحذاء على كل من فعل معها فعل بوش!!، أو أن تشتري الحذاء لتتعلم منه فن الحياة!!!
بل يجب أن نتعلم من عقل رامي الحذاء حمل مسئولية اللحظة الراهنة..
جزاكم الله خيراً يا أستاذ يحيى الرخاوي.
- ثم جاء البريد برسالتين من أختين يلومان العيد وأحداث الحياة مبتعدتان (كما ابتعدت أنا) عن المسئولية الشخصية. قالت إحداهن وأنقل الكلمات كما هي في الرسالة بتعابيرها وعلامات ترقيمها المعبّرة:
((السؤال هو : هل يوجد أمل بعد؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
هل يوجد أمل بعد كل هذا الخراب الذي يعم العالم أجمع؟ بعد كل هذا الفسوق والعصيان؟
أنظر وألتفت حولي ولا أرى سوى علامات تنبه بقرب الدجال (اللهم نعوذ بك منه)))
(( كلما فكرت بالأمر أذوب من شدة حر القلق والخوف!!! إنني لا أبالغ!
آه على فلسطين والعراق والعالم أسره. قلقلة جدا..))
وتقول الأخت الأخرى ((إن هذا العيد سخيف ولا طعم له!!.. العيد خروج من بيت لآخر.. العيد مجاملات ومعايدات وللأطفال مراجيح وألعاب.. ولكن هل قلوبنا تعيد هل قلوبنا مسرورة أم أنها تبكي كل يوم مئة مرة ولا أحد يعرف بهذا القلب والبكاء غير من خلقها الله سبحانه وتعالى.. أين هو عيد أهل غزة؟؟))... وهنا تذكر الأخت قولاً أحزناها كما أحزنني قاله لها أستاذٌ نفسي بجامعة غزة في أول يوم العيد لما عايدته: ((بأي حال جئت يا عيد.. غزة بلا رواتب.. ولا أضاحي.. ولا حجيج.. ولا غاز ولا كهرباء..!!)) *
والجواب لكل هذا الكم من الحزن الخارجي هو أن أعي مسئوليتي الداخلية الذاتية عن الحزن الشخصي، وأن أسعى نحو العمل الصالح الفاعل المصلح، وأن يكون الله في نفسي أكبر وأقدر، وبهذا أكون أنا أكبر من أي حزنٍ وغمٍ وأحمل مسئولية اللحظة الحالية، أوليس كلنا راعٍ ومسئولٌ عن رعيته؟!!
- ومن المضحك المبكي في نفس الوقت، وأنا أنقد خطاب العرب للعرب بفقد العرب بلغة غير عربية أن كانت بعض الردود من بعض الزملاء العرب على مقالتي العربية الناقدة باللغة الإنكليزية!!! فهل أعتبر هذا فَقْداً بعد فَقْدِ الفَقْد؟!! ليصبح فقدي هذا ثلاثة في واحد، أي [بالإنكليزية 3 in 1] !!..
- ختاماً أقول ..
محاولاً أن أكون صادقاً مع نفسي غاية الصدق.. كيف لا؟!
فليس معي الآن إلا الله تعالى يرى وقع الأصابع على الحروف:
نعم إنَّ نفسي -كأيةِ نفسٍ بشرية- كالبحيرة الوادعة لا يُرَ على سطحها إلا انعكاس شمس هذا العيد، وقد بدا في العيد كامداً شاحباً هزيلاً، وليس لخلل في أصل أشعة الشمس، ولكن لاضطراب صفحة ماء البحيرة وعدم سكونها.. ومن يُسْكِنُ ماء البحيرة إلا نسيمٌ عليلٌ من ربها الكريم؟!..
قال تعالى: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)) سورة الرعد، فالبحيرة قد تطفو على سطحها قطراتٌ نفطية ناجمة عن التلوث الذي طال كل شيء حتى النفس البشرية، وهذا التلوث والفساد لا تجلوه إلا ساعات الصفاء الصافية مع الخالق جلَّ وعلا، والذي يتبعها عملٌ مخلص متقن على نور من العلم.
قال تعالى: ((وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)) سورة الشمس
شكرا لكل من أرسل تناغمه النفسي مع غنائي.
شكرا لكل من حاول أن يكون مرآةً (أرجو أن تكون صادقةً) لما أخرجت نفسي.
وأخص بالذكر زوجتي التي كانت ماهرةً في الغوص في أعماق نفسي لتظهر لي ما أهمني.
ربنا هبْ لنا من أزواجنا وذُرِّيَّاتِنَا قرة أعينٍ واجعلْنا للمتقين إماماً.
مع خالص أمنياتي لكم بكل الخير..
تمت بتاريخ
25-12-2008
* والآن وغزة الحبيبة تحت نيران القصف الإسرائيلي وأعداد القتلى في تزايد، من نبكي ولمن نبكي؟! ، من نشتكي ولمن نشتكي؟!..
ويخطر على بالي تساءل: هل هو ردٌ إسرائيلي ثأراً لحذاءٍ عربي حاول صفع بوش؟! هل هي تغطيةٌ بطريقة إسرائيلية على خبر الحذاء ووجه بوش؟!
وليكن ما يكون إنه الحقد والشرُّ الصرف ولا شيء بعده.. لكنها أيامٌ تلتقي فيها هجرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في سبيل الله مع ولادة سيدنا عيسى عليه السلام مع أنهار الدم في غزة!، هجرة.. ولادة.. دم، إنها المعادلة التي أرادتها إسرائيل وأمريكا والبعض، وما يشاءون إلا أن يشاء الله ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين..
ومن حياة الأنبياء المصلحون يجب أن نتعلّم كيف عاشوا وسطّروا للتاريخ معنى المسئولية وكيف هي حياة الله أكبر!، فأبهروا الدنيا للآن بصلاحهم ونجاحهم وبتقليم أظافر العدوان البشري.
ومن أجل غزة ومن أجل كل طفلٍ وامرأةٍ تحت النار ليكن عملنا وحياتنا مآذن تنادي كل لحظة الله أكبر الله أكبر، ولنحمل المسئولية.. وكل عام وأنتم مسئولون مصلحون صالحون فاعلون وبكل خير..
تم التعديل بالساعات الأخيرة من عام 2009
ويتبع >>>>: نفسي وهذا العيد... تبعات نفسية2
*اقرأ أيضاً:
الصخرة، بيروت، التوحد، الوحدة وأنا / من عجائب الصدقة/ أسرتي صامتةٌ.. لكني أعشق حديثها!