سألتني: سيدي منذ الرابع والعشرين من الشهر المنصرم لم تكتب شيئا!!.... هل لم تعد تر شيئا في عالمنا يستحق التحدث عنه فاعتزلت الكتابة؟!
أقصد اعتزلت الرأي؟!
ماذا أكتب؟ وعن ماذا؟!
غزة تتصدر المشهد، ملحمة الدم الذي يسيل أنهارا تحت القصف والحصار في مشهد يفوق خيال أي مؤلف درامي، ويتحدى شجاعة الشجعان، وبلاغة الفصحاء، وعار الجبناء!!
غزة وحدها تقول فاسمعوا لها وأنصتوا لعلكم ترحمون.
يؤلمني جدا جدا أنني أرى كيف وصلنا إلى هذا؟!
ويؤلمني جدا أنني أعرف كيف يمكننا الخروج؟!
ويؤلمني جدا أن الناس من حولي يسألون عن هذا وذاك بمنتهى البراءة / الساذجة / الاستهبال!!!
هل ما كتبته طيلة عشر سنوات، وأنا أكتب قبل ذلك، هل كلماتي طوال كل هذه السنوات تصلح إجابة على السؤالين؟!
إذا كان الأمر كذلك فلا حاجة لمزيد من الكتابة، وإذا كان الأمر كذلك يصبح للكتابة فعلا جدوى!!!
الذين سبو إيران وحسن نصر الله والشيعة بالأمس هم أنفسهم من ينتظرون منهم أن يحاربوا من أجل غزة!!
والذين يرون كيف أصبحت مصر الرسمية، وكيف أصبحت حقيقة وواقع قدراتنا الضاربة أو الرادعة أو الضاغطة كبلد مجاهد "سابقا"، وخير أجناد الأرض، وكنانة الله، وغير ذلك من الألقاب، من يرون هذا الانهيار، ويعجزون عن وقفه يتشاغلون أو يهربون من هذا العار القومي العام بسب الصغار أو محاولة استفزاز الكبار ليقوموا بأدوار منتظرة وغائبة لمصر التي كانت يوما قائدة ورائدة وقلب الأمة العربية!!
في مصر ملايين من الأبطال ما يزالون ينزلون للشوارع ويقولون لا... يغالبون الجوع والبرد والخوف وبهتان الإعلام الرسمي، وأمراض التلوث، والمبيدات المسرطنة، ويغالبون عساكر الرعب المركزي!!!
وفي مصر آلاف من المعتقلين لأجل غزة بعضهم بتهمة التظاهر، أو جمع التبرعات، وكل من يدعم غزة متهم تبحث عنه الأجهزة، وتود أن تضعه في السجن!!
هل تتسع السجون في مصر لكل هذه الملايين؟!!
وفي مصر ملايين أخرى ممسوخة عقولهم، ومشوهة أحلامهم ونفوسهم!!
إنهم حصاد تعليم فاسد متهالك ومتخلف، وتربية عقيمة داخل وخارج الأسرة، وإعلام تافه سخيف سطحي وأهبل بشكل مخيف!!
إنهم ضحايا حرب استنزاف طويلة تخوضها السلطة في مصر ضد شعبها، وتنتصر فيها وتتقدم فوق الأشلاء والدماء، رويدا رويدا... تسقط الضحايا بالسرطان أو حوادث الطرق أو حرائق المنشأت أو المركبات أو فيروس الكبد أو أمراض أخرى!!
لقد كتبت من سنوات أن مصر مريضة، والصحيح أن الأوبئة تنتشر في جسدها وروحها لأنها تعيش في حصار وحرب ضروس، وما تزال صامدة تقاوم... تماما تماما مثل غزة!!!
قال لي: الحرب تطهرنا، وقلت في نفسي: صدقت فأنا من بداية العدوان أتوضأ وأغتسل كل يوم!!
لا أحد يحب الموت يا بلال باشا فضل، ولكن إن لم يكن من الموت بد فمن العار أن تموت جبانا، ولقد حاصرتنا إسرائيل الداخل، والخارج، ولأننا نحب الحياة نستمر فيها، لكنهم يقصفون ويحاصرون، فلا نجد غير الدماء تطهرنا!!
والله كلنا نحب الحياة، وإسرائيل الداخل والخارج كلها إصرار على مشاركتنا هذا الحب، ومستعجلين علينا قوي عشان نعيش الحياة... الآخرة!!!
الناس من حولي لا يعرفون أوليات السياسة، ولا التاريخ، ولا أساسيات مهارات النضال المدني، ولا أبسط المعلومات عن الأعداء والأصدقاء، ولا يفهمون مفاتيح وأفكار الصراعات والتوازنات وديناميات القوى والمصالح في عالمنا اليوم، ولا هم على مستوى عمق معقول في استيعاب الدين الذي يعتقدون أنهم يمارسونه ويلتزمون به، وفي ظل استبداد وهموم شخصية وعامة طاحنة، في غياب الدولة وتفكك المجتمع، وانسحاق الإنسان الفرد!!!
فكيف أنتظر منهم أنا أو غيري فعلا مبدعا أو جهادا فاعلا؟!
وماذا يبقى لهم غير البلبلة والعجز، وفقر الأفكار، وأمراض الفقر المادي والمعنوي؟!
ماذا تنتظر من هذه الأمة المسحوقة المنتهكة الغارقة قي مستنقعات صراع ومشكلات تخلف؟!
أمة لا تحتاج إلى المزيد من الشكوى والجلد واللوم.
الحمد لله أنها ما زالت تصرخ!!
أليس الصراخ علامة حياة؟! تماما عند الميلاد!!
هل هو ميلاد جديد أم أننا ما نزال أطفال لا نجيد غير الصراخ؟!!
واقرأ أيضًا
على باب الله: المنافقون الكبار/ على باب الله: إعلام العدوان...على الذات