المشهد الغزاوي شديد الثراء، وغزة كاشفة فاضحة لأشياء كثيرة متوارية تظهر تحت القصف والتعرية التي تبدو فيها نواحي القصور في الأداء الرسمي والشعبي العربي!!
الناس تبدو ضائعة مطحونة بين إعلام ديماجوجي ضد المقاومة يكيل الشتائم، ويفجر في خصومته مع "حماس" ليتحول إلى مضخات عفن وهراء وكليشيهات لفظية مملة، وتعبيرات ساقطة ومبتذلة، ومن الجهة الأخرى يبدو الإعلام المناصر للمقاومة ديماجوجيا بطريقته الخاصة، ففي حين يقصفنا الإعلام المناهض بأفكار مسمومة، ومعلومات كاذبة ملغومة، وردح يقترب من لغة الشراديح (جمع شردوحة)، أو الشراشيح (جمع شرشوحة)، فإن الإعلام الموالي يقصفنا بالصور، والصراخ من عينة: وينكم يا عرب!!!
وتحريك المشاعر بدلا من إكساب المهارات لنضال واسع طويل.
صور القتلى والدمار، ومشاهد الصراخ والدماء والدموع، واستعراض تضاريس وتفاصيل وتلافيف ودقائق ومهازل العجز الرسمي العربي هي المواد التي يعرضها هذا الإعلام طيلة اليوم والليلة!!!
والمواطن مضغوط يلهث ويئن بين الإعلام الديماجوجي المناهض للمقاومة، والإعلام الديماجوجي المناصر للمقاومة!!
وآخر ما وصل إليه الديماجوج المناهض والموالي أن عرض وجهات نظر مختلفة هي غاية المراد من رب العباد، ولا أدري ما فائدة أن تجمع طرفي الديماجوجية على شاشة واحدة!!!
ونتيجة الديماجوجية الحالية أن العقول والقلوب والناس ما تزال محبوسة في السؤال البدائي:
هل أنت مع المقاومة أو ضدها؟!! هل أنت مع العجز الرسمي؟
وإذا بقينا في مربع هذا السؤال نكون في حالة انتصار كبير للإعلام المناهض للمقاومة، والرد على حجج هذا الإعلام الغنائي المناهض جيد وهام، ولكنه الأهم للمواطن أن يتعرف على طرق ووسائل التكيف مع هذه الضغوط التي يعيشها تحت القصف، ومشاهدة الدماء والدمار، ومهم لديه أكثر أن يعرف كيف يمكنه أن يناصر ما ينحاز إليه، ويدعم اختياره سواء كان مع المقاومة أو ضدها!!
والمذهل والمدهش والمؤلم والمحزن أن الإعلام المناهض والإعلام الموالي لا يبدو عابئا بالمواطن على الإطلاق، أو هو على الأقل ينظر إليه بوصفه مجرد متفرج، أي مادة للاستخدام والتجريب، ومثلما يفعل الصهاينة في قصف غزة بقنابل وأسلحة جديدة، ومثلما يحاولون التلاعب بنا في حرب نفسية ودعائية شرسة وناجحة مع المغفلين منا، ومكشوفة وبلهاء مع من يعرفون منا أساسيات وبديهيات وأوليات البروباجندا والحرب النفسية والدعائية!!
إعلامنا التعبوي هذا بشقيه (مع وضد) ينفث في نفس المواطن حزنا وبلبلة وشعورا مضاعفا بالعجز، وبالخداع، فالإعلام المناهض للمقاومة يلوي الحقائق ويحاول إقناع الناس بأن الإعلام المناصر لها يكذب عليهم، ويحاول غسيل أمخاخهم، والإعلام الموالي للمقاومة يفعل نفس الشيء، أي يحاول إقناع المواطن أن الإعلام الآخر يخدعه ويخونه ويشوه عليه الحقائق، والشعور بأنك هدف للخداع ليس مريعا، وفي حالة الإعلام الموالي للمقاومة فإن الاكتفاء بتبريد الحجج المؤيدة والرد على شبهات إعلام الضد، وتصعيد التعاطف ومشاعر الحزن دون وصف خارطة طريق لمناصرة هذه المقاومة بوسائل مدنية شتى غير التبرعات والمظاهرات الممنوعة في مصر وغيرها إلا عشق الأنفس، وحتى التغطية للمظاهرات البطولية جاءت باهتة!!!
الإعلام الموالي للمقاومة يعمل بنفس النمط التعبوي الذي يستهدف حشد المشاعر المتعاطفة مع المذبحة والصامدين، دون أن يكون لدى الناس تصور واضح عما يمكنهم فعله تبعا لهذا الزخم الشعوري: تكيفا معه، وتعبيرا عنه، وإدارة لهذه الضغوط والغضب عبر أفعال متنوعة وجهود متعددة!!
الإعلام الموالي للمقاومة يبدو جاهلا للأسف بموضوع وبأدوات وأهمية وآفاق وطرق ومساحات "الجهاد المدني" الذي يندرج فيها آلاف الناس فعلا سواء على الإنترنت أو على أرض الواقع، ولكن هذه المساحات في حاجة إلى توضيح وإبراز لتكون سبل خلاص ومسارات جهاد ومناصرة يتناقلها الناس وينشطون فيها وتتراكم نتائج جهودهم هذه لتدعم المقاومة فعلا!!
والإعلام الموالي للمقاومة يبدو جاهلا لتفاصيل كثيرة، ويبدو مستهينا بأشياء وخطوات وجهود واتصالات وأنشطة فعالة جدا، وهو لا يعيطها حجمها من التغطية لأن القائمين عليه ـ حتى الآن ـ جهلاء بحقيقة وتفاصيل هذه المساحات وتأثيرها، وتبدو المفارقة محزنة في أننا نكاد نمتلك أحدث الأدوات التقنية المعاصرة، وبينما يخوض الأبطال بالسلاح معركة صمود غالية ومتطورة على الأرض، ويتحمل أهلنا في غزة هجوما شرسا غير مسبوق في تاريخ الإنسانية، فإن بقية الجبهات ما تزال خاوية إلا من رواد ومستشكفين ما زالوا يتحسسون، ويتعلمون بالتجربة والخطأ، والإعلام الجماهيري الواسع ما زال أعمى عن هذا وأهميته كله، أو يراه أتفه، أو أقل من أن يعطيه ثقلا أو مساحة تغطية كتلك التي يعطيها لصور الدمار، أو تصريحات الزعامات، أو خطبهم المملة، أو الكلمات المطولة أمام جماهير محتشدة، أو في اجتماعات مغلقة!!
هو إعلام تعبوي يصيب بالغثيان، ويزرع عمدا في النفوس الغضب الشديد، ذلك الغضب الذي لا يوجد له متنفسا، ولا استثمارا إيجابيا كافيا، فيتحول إلى كمد بدلا من أن يتحول إلى تفكير وإلى فعل مؤثر ينصر المقاومة، ويحاصر ويوجع إسرائيل، وهذا الغضب أيضا يتحول إلى عدوان الذات وعلى الآخرين، ولا أحد يتابع هذا أو يرصده، وهذا من القصور أيضا!!
رغم أن رصده من موضوعات الإعلام ووظائفه!
والعنف المزاح Displaced Violence واضح جدا وحوادثه متوالية بشكل رهيب، ولا أحد ينتبه فالكل مشغول بتصريحات الزعماء، وصور القتلى، وعداد الأرقام، وقنابل الفسفور!!
وتكرار هذا الضغط دون متابعة آثاره نفسيا!!
والعنف أو العدوان المزاح هو ببساطة تلك المشاعر الملتهبة في الصدور والنفوس التي لا تجد مخرجا ولا متنفسا، وتصادف محفزا يطلقها في الاتجاه الخاطئ، كما حصل في مباراة الأهلي والإسماعيلي وشرحته في حلقة سابقة من برنامجي "فش غلك"، وفي مدونة سابقة أيضا، واليوم سمعت عن ذلك الحادث الذي قتل فيه زوج زوجته لأنها تعبيرا عن تعاطفها مع غزة، وهروبا من الشعور باللافعل والعجز واللامعنى قررت الذهاب إلى رفح، وربما كانت تفكر في الدخول إلى غزة!!
هذه الزوجة اعتمل في نفسها ما حاولت شرحه وتحليله هنا، وقررت أو رأت أن هذا هو أقل ما ينبغي عمله لمناصرة غزة، ورفض زوجها رغبتها، وربما شعر بينه وبين نفسه أنها تحاول فعل ما يفكرهو فيه ولا يستطيع ربما، وشعر أنها أشجع منه أو أقرب إلى الله، وحاول منعها، وهي كانت مصرة على قرارها، وضخ الإعلام التعبوي من الجانبين يطن في أذنيها فتجهز حقيبتها، وربما كانت مستعدة للطلاق حتى تتحرر وتذهب للاشتباك فهي لم تعد تحتمل طوفان الأكاذيب من جهة، وقصف صور الشهداء والدمار والجرحى من جهة أخرى!!
لم تعد تحتمل الشعور بالعار والخزي الذي نتداوله جميعا ونتضرر منه كلاما، وصممت ورفض زوجها، واحتدام النزاع والصراع بينهما حتى.... قتلها!!!
واقرأ أيضًا
على باب الله: إعلام العدوان...على الذات/ على باب الله: حروب غزة التي بدأت