حمدت الله أنه بمناسبة رأس السنة، تأجل نشر التعتعة الأسبوع الماضي، وكنت كتبتها قبل أحداث مجزرة غزة وما تلاها، كانت تطويرا لفكرة طرأت لي حول ما أسميته "المخ العالمي الجديد" تصورت من خلالها أن شبكة الإنترنت العالمية، وهى تحاول أن تستقل عن سلطات المال والاستغلال والاستهلاك المركزية، هي بمثابة مخ عالمي جديد يتشكل ويتبرمج بما يناسب مرحلة الإنسان المعاصر، حمدت الله أن هذه التعتعة تأجل نشرها فقد بدا لي أنه من غير اللائق أن يكتب أي كاتب بعيدا عن هذه البشاعة التي تجرى.
طيب ماذا أكتب، ولماذا أكتب؟ ولمن أكتب؟ ثم ماذا؟ لقد كتبوا كل شيء في كل اتجاه، بكل أسلوب، كتبوا غاضبين محرضين مهيَجين ساخطين، كما كتبوا مبررين، مؤجلين، متعقّـلين، متفرجين، جبناء. تحول مؤشر الغضب بعيدا عن إسرائيل وكشف دور أمريكا والمال، إلى اتهام إيران والفرس والشهداء!!، أو على الجانب الآخر: سباب مصر وتخوينها، واستمر التراشق بين الفريقين "بالألفاظ"، حتى كادت تتوارى أشلاء الضحايا الشهداء وأنهار الدم الطاهر بين ثنايا الكلمات، فماذا أكتب، ولماذا؟ أليس الأوْلى أن يتواصل جهد كل الناس كل الوقت للسعي لاستعادة عقل البشرية معا في تشكيل شبكي جديد يمثل أنواعا أرقى من التواصل البشرى تصحح خلل التعصب، وجلطات الحروب، ونزيف استغلال البشر للبشر؟
الذي يجرى عبر العالم الآن تواصلا إلكترونيا، يعلن كيف أن الناس قد امتلكوا أداة تبدو قادرة على مواجهة الحكومات الخائبة والأموال القاتلة، كاد الإعلام التقني الشعبي التواصلي التلقائي الأحدث أن يؤكد لامركزيته وقدراته. تتضاءل سطوة الدولة والشركات على وعى الناس باضطراد حتى يبدو أن ثم تحولا نوعيا يحدث للبشر.
خطر لي أن الذي يجرى في غزة، والعراق، وأفغانستان، وكل العالم المظلوم، والمُستَغل، هو خلل جسيم في تآلف المخ العالمي الحالي، وأنه لم يعد من الممكن أن ينصلح هذا الخلل بمجرد رأب صدع القهر بأنواعه، أو وقف نزيف حروب الإبادة، تصورت أن الجاري ليس مجرد احتلال لأرض الغير، أو قتل للأبرياء، بقدر ما هو تهديد لمسار البشرية جمعاء، وما لم يتكاتف كل البشر لصده، فنحن نهدر دم الشهداء الأطهر.
تصادف حدوث عطل كابلات الإنترنت منذ أسبوعين وأنا أعايش محاولات مخ أخي الأكبر لإعادة التربيط لتجاوز أثار جلطة مفترسة، كانت نيورونات مخه تحاول الالتفاف حول التلف بكل قوة الحياة، تجلى ذلك أكثر بعد أن غادر المستشفى إلى بيته حيث كان يفيق لحظات، ليغيب من جديد، كنت أقرأ في عينيه جهود إعادة برمجة مخه، كنت أقرأ فيهما ألمه، ومحاولاته للتعرف على وجهي حين أقترب منه، كانت عيناه تبرقان بالرضا وأنا أملّس على رأسه، وحين أنحنى لأقبل يده السليمة كان يسحبها منى كما كان يفعل في صحته. ذات صباح، فتحت لي ابنته مهللة: "بابا قال لي أزيك يا عزة"!، أخذت أتعجب من قدرة المخ البشرى أن يقبل التحدي هكذا، ولم ينطق بعدها إلا بضع كلمات منها ما قاله لي "أيمن" ابنه في المعزى يطمئنني على جمال نهايته، أنه حين سأله "أزيك يا بابا" أجاب "زى الفل"، ثم رحل راضيا مرضيا.
بالقياس: بدا لي أن شبكة الانترنت أصبحت هي المخ الأحدث للعالم البشرى، وأن أفراد البشر عبر العالم قد أصبحوا نيورونات هذا المخ الذي يعاد تشكيله في مرحلة برمجة جديدة، استعدادا للنقلة القادمة في تطور البشرية، تصورت أن عطب الكابلات الستة كان بمثابة جلطة إلكترونية، وأن إعادة التربيط – عبر تونس- من خلال الشبكة العربية للعلوم النفسية، قد سمحت للنشرة اليومية "الإنسان والتطور"، التي كنت أنشرها في موقعي الخاص قبل العطب الكابلاتي، أن تواصل صدورها (بفضل الابن الصديق د.جمال التركي)، كانت المقابلة بين ما يحاوله مخ أخي، وما يجرى لمحاولة تجاوز العطب الإلكتروني الكابلاتي شديدة الوضوح.
مع امتداد القياس خيل إلى أن كل فرد عبر العالم قد أصبح خلية إنسانية مفردة في المخ البشرى العالمي الجديد؟، وأن البشر "معا" على وشك أن يتجاوزوا - الجلطات- والأنزفة التي سببتها القوى التدهورية المفترسة. هل نحن، "الناس الخلايا"، قادرون على تجاوز هذا التخثر الانقراضي الناتج عن انسداد قنوات تواصلنا بجلطات أكوام النقود المتعفنة المغتربة، والأفكار المنغلقة!؟
ثم شاءت إرادة الله أن تفشل محاولات مخ أخي، لكن زاد أملى أن ينجح المخ العالمي الجديد في ترتيب برامجه الأحدث لتذيب الجلطة الإسرائيلية وما شابهها من كل أنواع نزيف الاستغلال والإبادة عبر العالم.
وإلى أن يحدث ذلك، فليتواصل الاستشهاد لمن يختاره، ولنقدس التضحيات، ولندفع الثمن طاهرا غاليا، بالحرب، والإبداع، والألم، والصبر، والتواصل للتغيير.
نشرت في الدستور بتاريخ 7-1-2009
اقرأ أيضا:
ثقوب وخوابير / الحق في الفرحة وسط المصائب، والأحزان!! / الزمن والتاريخ، ومعنى ما هو: أوباما