كيف نقرأ ما يمكن تسميته بظاهرة "أوباما"، أو بحَدث انتخاب أوباما (فهو لم يعد بعد ظاهرة، وإن كنا نتمنى ذلك)، إن انتخاب أوباما شيء، وما سيفعله سيادته بشخصه أو بمن حوله شيء آخر.
منذ ظهرت نتائج الانتخابات الأمريكية، والتحليلات السياسية تتواتر بشكل كافٍ، بحيث لم يعد هناك مجال لإضافة جديدة. ما وصلني من تحليلات شاملة مفيدة تناولت كل الاحتمالات من أول الأمل في التغيير "الذي هو"، والذي لا بد جداً أنه سوف يصل إلينا حين يأتي علينا الدور إن شاء الله بإذن الله، من غير مقاطعة، إلى التحذير من أن المسألة ليست أوباما حسين أوباما، أو ماكين رياض بالين، وإنما المسألة أعمق من ذلك وأخطر.
حين نتذكر حقيقة القوى التي تحكم العالم فعلاً وهي الشركات العملاقة العابرة (والقارحة)، والمافيا ورجال المخدرات والدعارة، وأن الدول ورؤساؤها ليسوا إلا واجهة للمنظرة واحتفاليات نتائج الانتخابات، حين نتذكر ذلك لا ينبغي أن نيأس، بل علينا أن نلتقط من حركة التاريخ ما نواجه به كل ذلك.
سواء تم التغيير أو لم يتم، سواء حقق أوباما ما وعد به أم لم يحقق، سواء اغتالوه من داخله، (وهو الأخطر) أم استطاع أن يقاوم هو وزوجته وابنتيه الجميلات مدة أطول، كل هذا لا يقدم أو يؤخر فيما وصلنا من نجاح الشعب الأمريكي في أن يكون في صف التاريخ الصحيح.
فما هو التاريخ الصحيح الذي أقصده؟
التاريخ الصحيح هو التاريخ الذي يصحح أخطاءه في الوقت المناسب قبل أن تودي به هذه الأخطاء إلى الهلاك فالانقراض.
في أقل من ثلاثمائة عام صحح الشعب الأمريكي خطأً خطيراً كان يهدد البشرية كنوع أصلاً، وهو خطأ أن ينقسم الجنس البشري إلى أجناس متعددة، تهلك بعضها بعضاً، لقد أثار إريك فروم العالم النفسي الأشهر في كتابه "تشريح عدوانية الإنسان" (1973) تساؤلاً مزعجاً يقول: هل الإنسان نوع واحد؟ قال فيه: "... أنه نظراً لاختلاف اللغات والألوان والأوطان، قد يكون استقبالنا لبعضنا قد وصل إلى اعتبارنا أجناساً متعددة، لا جنساًً واحداً" وقد استلهمت من هذا الرأي في أطروحتي عن "الإبداع والعدوان" (الإنسان والتطور 1980) أن هذا الاحتمال يفسر جزئياً تلك الغرابة حين يتصف الإنسان، دون الحيوانات الأدنى، بصفات تبدو غبية بيولوجياًً، وتطورياً، إذ هي مهددة لجنسه بشكل خطير، فهو الكائن الوحيد الذي لا يتورع عن قتل أخيه من نفس نوعه، دون سبب تطوري بقائي، ودون اعتبار لعلامات الإذعان.
إن ما فعله بوش– بما يمثله وليس فقط بشخصه– قد عرّى هذا الخطر وجسده أمام البشرية جمعاء على مستويات وعي مختلفة، هذا هو ما أدركه النوع البشري وهو يشاهد كيف يقتل أفراد النوع البشري بعضهم بعضاً، لمجرد تحقيق مكاسب اغترابية لا تعود حتى على المنتصر بأي مقومات حقيقية للبقاء.
حين تصل مثل هذه المؤشرات للجنس البشري، دون استثناء الشعب الأمريكي، بل وعلى رأسهم الشعب الأمريكي أكثر الله خيره وعمق وعيه، يسري بين النوع شعور بالتهديد الحقيقي لبقائه أصلاً، وقد سهلت وصول هذه الرسالة العالمية ثورة التواصل الأحدث عبر العالم، ذلك التواصل الذي نجح، ولو مرحلياً، أن يتجاوز مركزية القتلة حكاماً وشركات، وحين وصلت رسائل التهديد بالانقراض إلى كل الناس، قام الشعب الأمريكي بالأصالة عن نفسه، والنيابة عنا جميعاً بمحاولة تصحيح الخطأ، ودرء خطر الانقراض الذي تجلّى أكثر فأكثر ليس فقط بتمييز الأبيض عن الأسود، وإنما– بتقسيم العالم- على لسان أغبى من حكمه، إلى معسكرات للشر والخير.
فرحتنا أن التاريخ قادر على تصحيح نفسه بهذا الجمال، لا ينبغي أن تلهينا عن أن قوى الانقراض سوف تسارع بإجهاض ما كشفها هكذا، وهي سوف تلعب أول ما تعلب على أوباما نفسه وبطانته.
فرحتي كانت أكبر وأنا أسترجع الأرقام التي تطمئنني على أن ثلاثة قرون هي بمثابة جزء من ثانية بحسابات التطور والتاريخ، فلماذا التخوف؟ ولماذا اليأس؟ حتى لو أفسدوه أو خربوه أو أجهضوا آمالنا فيه.
بعض الخيال لو سمحت –عزيزي القارئ- لتزداد فخراً بما فعله الشعب الأمريكي خلال أقل من ثلاثمائة سنة: يرجع أصل الحياة على الأرض، ومن ثم أصل الإنسان إلى بلايين السنين، عمر الإنسان الحالي حوالي 600 ألف سنة، عمر الأديان السماوية 4000 سنة.. إلخ.
ما رأيكم؟ أليس ما حدث في ثلاثمائة عام يستأهل فرحة أصيلة باقية، بعيداً عن الأشخاص، كما أنه يستلزم أن نواصل تفاؤلنا لفعل أكثر عمقاً وأطول عمراً،
يا رب قوّنا عليهم
يا رب سترك.
نشرت في الدستور بتاريخ 19-11-2008
اقرأ أيضا:
الحق في الفرحة وسط المصائب، والأحزان!! / غزة، والبشرُ خلايا المخ العالمي الجديد!! / دعوة إلى: الوعي بما تملك!! (1)