أن تطلب من أي شخص أن يضع ما يملك في بؤرة وعيه حتى يعرف إلى أين يتجه؟ ولماذا يجمع ما يمتلك؟، فلا بد أن تفترض ابتداء أنه يملك شيئاً أصلاً. إذن هذه التعتعة ليست موجهة لمن لا يملك عشاء عياله الليلة (أغلب الناس!!)، لكنني أتصور أنه –بالذات– هو أول المستفيدن بعائدها إنْ وصلتْ!
بصراحة هي خطرت ببالي بعد أن كتبت تعتعة الأسبوع الماضي "حين ينفصل المال عن صاحبه..."، أعني أنها موجهة لهذا الذي حين انفصل عما يملك: ما أغنى عنه ماله وما كسب.
لكن عندك، إن هذا الذي انفصل عنه ماله حتى صار خادماً له أكثر منه سيده، لن يقرأ ما أكتب هنا بالذات، وحتى إن قرأه فهو لن يسمح لنفسه أن يفهمه، وإن فهمه فهو إما أن يلعنني أو يتهمني بالخبل، أو على أحسن الأحوال يلمّح أو يصرح أنني أنا أيضاً لا بد قد انفصلت عما أملك، خصوصاً بعد أن عددت نفسي من الأثرياء في تعتعة سابقة منذ أسابيع، حين عرّفت الثري أنه: "الذي يكسب أكثر مما ينفق، ويمتلك ما يمكّنه من الحصول على أغلب ما يشتهي"، وأنا أتمتع بهذين الحسنيين!! فهل أنا يا ترى أضع ما أملك أولا بأول في بؤرة وعيي كما أحاول أن أدعو غيري أن يفعل؟ بصراحة أشك في أن تكون الإجابة بالإيجاب.
إذن ماذا؟
قلت أعدل عن الكتابة في هذا الموضوع أصلاً، بُعداً عن الهمز واللمز، لكنني وجدت نفسي أهرب، وأيضاً يبدو أن المسألة لم تعد في يدي بهذه البساطة.
لست أدري ماذا جرى لي هذه الأيام، هل هو إنكار للواقع؟ هل هي غفلة عن آلام الناس الحقيقية؟ منذ كتبت تعتعة ذلك "الشيء الـ ما" بتاريخ 24-5-2008 ذلك "الشيء" الذي أعدت اكتشافه داخل أغلب المصريين برغم كل الجاري، وأنا أشعر أنني تحت رحمة دافع يستدرجني في هذا الاتجاه، اتجاه يقول: أنه من الممكن أن نواصل العيش بعناد، بل وبفرحة هي هي الألم الخلاّق، نفعل ذلك بدءاً من الآن، وحتى تنزاح الغمة، أي نزيحها، ولِمَ لاَ؟
على نفس الموجة المتحدية العنيدة، كتبت في العيد تعتعة "الحق في الفرح، برغم كل الجاري" بتاريخ 4/10/2008.
ثم إنني رحت أراجع أرجوزة (أو لعلها قصيدة عامية) كنت قد كتبتها أعلل فيها ما نحن فيه من غم وهم، كانت القصيدة بعنوان "ما هو لازم إني أزعل"، وكانت تبريراً لما أسماه بعض الزملاء "الاكتئاب القومي". قلت فيها مثلاً:
ما هو لازم إني أزعل لما ألاقي الدنيا صعبة، وانِّنَا لازم نعيش، لما ألاقي الودّ لعبة، خايبة، بتبيع المافيش، لما ألاقي الوعد كذبهْ، والخداع ما بينتهيش، لما ألاقي القلب علبة، فيها عضم وخيش وريش.
كانت من نوع الموال الذي يزيد مع كل فقرة شطراً، هكذا مثلاًَ:
ما هو لازم إني أزعل لما ألاقي الدنيا صعبة، وإنِّنَا لازم نعيش، والْتِقِينِى لسَّه عايشْ
لما ألاقي الودّ لعبة دايْرة بتبيع المافيش، والنفاق طايحْ وفارشْ،
لما ألاقي الوعد كِدبة، والخداع ما بينتهيش، والكلام فارغ ْ وهايش
لما ألاقي القلب علبة، فيها عضم وخيش وريش، والعمل كلّه هوامش.
إلى أن قلت:
ما هو لازم إني أزعل: لما ألاقي إنّ الكلام يتعادْ كإني ماقلتهوشْ،
لما ألاقي إن اللي جاري، كله جاري في الفاشوشْ،
لما ألاقي الناس بقوا من غير وُشوشْ،
لما ألاقي إن "اللي عنده" ناسِي إللي "ما عندهوش"
توقفت حالاً وأنا أكتب عند حكاية "إللي عنده"، و"اللي ما عندهوش"، وكنت قد كتبت لاحقاً قصيدة استدراكية اعتراضية تعرّي هذه المبررات، اعترضت فيها على هذا المقطع قائلا:
غصب عني لقيت كلامي وصل لقلب ما شفتهوش،
والفاشوش ما هوش فاشوش،
واللي ما عندوش دا عنده، آه، وغيره ما يلزموش،
والوشوش جواها جوه: كام وشوش،
بس اللي هيه!!!
من حقك الآن أن تتساءل: كيف أن "إللي ما عندهوش دا عنده"، هل أنا أروّج للرضا الخائب، والزهد الكذاب، لحساب "اللي عنده أتلالاً من الأموال والأشياء"؟ ليس تماماً.
تمهيداً لشرح ذلك في الأسبوع القادم، وأيضاً لتوجيه الخطاب للذي عنده، أدعوك عزيزي القارئ أن تقرأ معي المثل القائل: "إن اللي ماعندوش ما يلزموش" والقول الشعبي "إن اللي عنده مية حايتحاسب على مية، واللي عنده عشرة حا يتحاسب على عشرة"، وأخيراً نتذكر معاً أن: "الكفن مالوش جيوب"،
ربنا يستر!!
نشرت في الدستور بتاريخ 29-10-2008
ويتبع >>>> : دعوة إلى: الوعي بما تملك (2/أ)
اقرأ أيضا:
غزة، والبشرُ خلايا المخ العالمي الجديد!! / الزمن والتاريخ، ومعنى ما هو: أوباما / الحذاء الطائر، والبصقة العالمية، ومسؤولية الفرحة