أغالب خجلي لأبوح بأنني أكره نمط الحياة الذي نحن فيه غارقون، وكأنه: عادي!! ويفزعني مقدار جهلنا.
أكره الوجبات الجاهزة، والمطاعم الحديثة، والألعاب الإليكترونية، والأسواق الضخمة التي هي من معالم الزيارة في كل الدنيا لأجل التسوق!!
وأغالب خجلي لأقول أنني أمقت التكلف والزخارف والترف والحياة الناعمة الناعسة، وأحب التقشف والبساطة والحياة الطبيعية الطازجة حيث لا مولات ولا موبايلات ولا فضائيات ولا بهرجة عيش!!!
منذ أكثر من عشرين عاما زارنا في مصر وفد من المجاهدين الأفغان ـفي ذلك الوقت ـ وهناك أجيال بكاملها الآن لا تدري ما حصل في أفغانستان من نهايات سبعينات القرن الماضي!!
سألت أحدهم وقد طاف في القاهرة وزار بيوت بعض المتدينين عن انطباعاته فقال: الدنيا عندكم ثقيلة، وفي حياتكم الكثير من المتاع، وأخشى أن أقول أن من شأن هذا تصعيب الجهاد لأن زخرف الدنيا يقعد بصاحبه ويشده إلى سيارته ومخدعه وزوجته وأثاث بيته الفخم، وغيرها من مفردات الحياة الدنيا!!
طبعا هذا الكلام قيل في وقت كانت ملامح الترف في مصر ما زالت في بواكيرها، ولا أدري ما يقوله "محمد ياسر"، وهذا اسمه، لو زار مصر اليوم، أو زار الخليج أو رأى الأسواق والقصور ونمط الحياة في أحياء الأغنياء من طنجة إلى مسقط!!!
وللذين يحبون التفكير والتأمل أشاركهم في سؤال: كيف انهار الإتحاد السوفيتي، والكتلة الاشتراكية كلها؟!
مفتاح الانهيار الأكبر كان التطلعات المادية للشعوب الطامحة إلى مطاعم الوجبات الجاهزة، ونمط الحياة المترفة على غرار أوربا الغربية ـ كما كانت تسمى ـ وعلى غرار أمريكا بصورتها في الأذهان والأفلام والأحلام!!
وكاذب من يقول لك أنه قادر على الجهاد الممتد والحقيقي في سبيل فلسطين أو أية قضية، وهو قلبه معلق بالأسواق والسلع واللهو واللعب والزخرف والفراغ العقلي، والروحي الشائع عندنا!!
ومفارقة محزنة ومضحكة حين تغرق الشعوب في التطلعات المادية وأغلبية العرب والمسلمين تحت خط الفقر يموتون من الجوع والمرض والفاقة بأنواعها في آسيا وأفريقيا، وربما في بقاع أخرى لا نعلمها!!
ملايين تموت من الجوع، وملايين تكاد تموت من الضجر والملل والتخمة، فكيف يجاهدون؟!! هؤلاء وأولئك؟!
هل يمكن لهذه المشاهد تفسير فشل كل مبادرات المقاطعة، وعدم استمرارها؟!!
بل وغياب الوعي والإحساس بالمقاومة الحقيقية الباسلة والصامدة إلا من مظاهر بسيطة وعابرة تومض مثل الشهب ثم تنطفئ وتتحول إلى رماد مثل كل حياتنا!!! وتترك المقاومة وحدها في العراء يفتك بها كل ذئب وكلب!!
اللغة العربية التي تندثر، والعادات الاجتماعية العربية في الكرم والشهامة، وهدي الإسلام في فرز الغث من السمين، واستبدال لباس التقوى بالماركات الفرنسية والأمريكية والموضات العالمية والأناقة المستوردة!!
ضياع ملامحنا ومعالمنا ومسخ شخصيتنا وانقراض ثقافتنا الأصلية وفنون تميزنا، وسلوكيات ولهو وترفيه نتعاطاه، وحياة نعيشها على طريقة الحياة المغشوشة البائسة المزيفة المزخرفة المسماة بالمدنية، والحديثة، وهي ليست سوى نمط مشوه من العيش يرفضه الملايين حول العالم بوصفه تجاريا ومنحطا وضار صحيا، وبائس روحيا واجتماعيا!!
الملايين حول العالم يبحثون عن أنماط عيش أكثر إنسانية ونحن ندمر أرواحنا وذواتنا بأنفسنا ونحاصر إسلامنا في مساكن هجين في طرازها، وملابس مضحكة نسميها حجابا، وطقوس بعينها نسميها عبادة، وكلام دراويش عن الآخرين والجنة والنار والصحابة والموت والحشر والنشور والحساب بينما كل مفردات حياتنا "الحديثة" مجلوبة ومستوردة متداخلة ومتناقضة بشكل مضحك جدا لمن يفهم!!
سرحت بخيالي أتصور رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجول في شوارعنا وأسواقنا وملاعبنا وملاهينا وجامعاتنا ومدارسنا ويدخل بيوتنا ودواوين الإدارة والبحث والحكم عندنا!!
وقد رأى في سيره ذات مرة رجلا يجصص بيته أي يغطي طينه الأسمر بلون بسيط يزخرفه، والرسول يقول له مبتسما: الأمر أعجل من هذا!
ألسنتنا المعوجة ونحن ننطق العربية بعشرات اللهجات، ونلحن في قراءة القرآن، ونحشو كلامنا بألفاظ إنجليزية وفرنسية دون قصد، وأحيانا بقصد التفاخر وإظهار أننا"مودرن" تعلمنا في مدرسة أمريكية أو جامعة فرنسية أو ننتمي ثقافيا وفكريا وحياتيا لهذا البلد الأوربي أو ذاك!!
ماذا عساه أن يقول؟!! رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، وهو يتجول في شوارع الدار البيضاء أو بيروت أو القاهرة أو دبي؟!!
ماذا عساه أن يقول غير أنه غريب القلب واليد واللسان!!
نخذل المقاومة وأهل المقاومة وأهل غزة بين أطلال القصف وجثث الشهداء، ومراقد الجرحى، ومشاهد الدمار، ونحن نعيش في حياة أخرى، ودنيا مؤثرة، وأحلام أخرى، وتفاصيل وهموم وشواغل وطموحات أخرى!
من باع، ومن اشترى، ومن نهب، ومن لا يفهم ولا يدرك ولا يرغب إلا في المزيد والمزيد من الترف!! والمزيد من الحياة المصنوعة الزائفة المتكلفة!!
أضحك ممن يتحدثون عن الحرب مع إسرائيل، أو يطالبون بفتح باب الجهاد يظنونه نزهة إلى مول، أو لعبة إليكترونية يقصفون فيها بالأزرار ويتصايحون مثل القردة البدائية كما نرى أولادنا في لهوهم المفضل!!
ملايين الآباء والأمهات خسروا المعركة ورفعوا الرايات البيضاء أمام ضغوط الإعلانات والتطلعات وطلبات الأولاد والبنات "زي أصحابهم"!!
مدارسنا لا تعليم ولا تربية، وإعلامنا خائب يردد كالببغاء ما يذيعه الآخرون دراما وترفيه واهتمامات وأفكار!!
وقلوبنا قاسية إلا قليلا، وكيف لا تقسو وقد نسينا الله وأنفسنا وهويتنا في غمرة حياة نعتقد أنها الحياة، وأنها منتهى التحضر، وأنها: العادي، وأن كل العالم عايشين كده، وليس هذا إلا ظنا وهو بعض خبلنا وقلة معرفتنا بالدنيا وما فيها!!
لا كل الناس بلهاء مثلنا، ولا هذه هي "الحياة" السعيدة في وجهة كل البشر، بل وإن العالم الذي يسبقنا صار سكانه يهجرون هذا النمط من العيش ويعتبرونه منحطا لا يليق إلا بالمتخلفين، وصاروا يبحثون لهم عن نمط بل أنماط أكثر توازنا وبساطة وتقشفا وإنسانية وصحية تاركين لنا المولات الباردة والوجبات الجاهزة: "زبالة الأكل"، وزبالة الفنون، وزبالة الحياة، ونحن في غاية السعادة بهذه الزبالة نعتقد أن قطعة دجاج بالخلطة العالمية، أو شطيرة أشياء مفرومة يسمونها "هامبورجر"، أو معلبات المياه الغازية، أو هذه الأصوات النشاز لكائنات لا تعرف لها جنسا ولا تصدر سوى ضجيجا ولا تقول إلا "أي كلام"، ونحن في غاية النشوة، والناشئ فينا يضع السماعات في أذنيه ليسمع هذا الغثاء يحسبه غناءً، ويعتقد جازما أنه قد صار "مواطن عالمي" يصغي لما يسمعه العالم، وهو يتجول في كفر "طهرمس" أو "السبتية" أو حتى في أرض الجولف بمصر الجديدة!!
خدعوك فقالوا: أن هذه هي الحياة السعيدة أو أن هذه هي الحياة العصرية الحديثة أو أن هذا هو الجمال أو التحضر أو العيش الطيب الرغيد أو أن هذا هو منتهى ما وصلت إليه عقول البشر في صناعة المفردات لإنسانية أفضل، خدعوك ولا أحد يرحم المغفلين في هذا العالم القاسي، لا أحد يرحم الجهلة الذين لا يعرفون ويعتقدون أنهم يعرفون ويفهمون ويعيشون الحياة العصرية، إلا إن كانوا يقصدون عصرية من العصير لا من العصر الزمن!!
ما زلنا ندهش أعداءنا لأن لنا موقفا مغايرا ونظرة مختلفة وفلسفة أخرى في تعاملنا مع الموت، ولكننا لن ننتصر عليهم إلا إذا استطعنا أن تكون لنا نظرة وفلسفة وطريقة أخرى للحياة غير هذا البؤس الذي تحسبه معاصرة وتمدنا وسعادة!!!
اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، ولا يعلمون أنهم لا يعلمون، ويعتقدون يا ربي أنهم يعلمون، وبسبب جهلهم يتخبطون، أغلبية ولكن أضلهم ألف سامري، وألف عجل له خوار، وألف قارون بل أقل من قارون، ويتسلط على رقابهم ألف فرعون وألف هامان وجنودهما، ويضلهم بالليل والنهار سحرة يسحرون عين الناس ويسترهبون!
وتشغلهم لعاعة الدنيا، وزبالة الحياة المعاصرة عن أن يعيشوا بكرامة وتوازن ورقي حقيقي وتمدن أصيل!!
اللهم افتح علينا لنفهم ونفقه وندرك الفارق بين الحضارة والحضيض، بين الجواهر والزجاج المهشم الفتات، بين عسل النحل، والعسل الذي في سم الثقافة المزورة والحياة المزيفة والعيش المنحط الذي يعيشه بعضنا، ويحلم به الآخرون!!
الجهاد هو ذلك كله: من غرفة النوم إلى ساحات القتال، في قاعة البحث كما في ملعب التدريب، في الثقافة كما في نمط الطبخ والزينة، في اختيار الأكثر روحانية وبساطة وربانية وإنسانية وأهدى إلى سواء السبيل.
الجهاد في كل لحظة أن تكون في سبيل الله، وفيها ذكر الله!!
ذكر الله ليس في الأوراد والصلوات والمناسبات فقط، إنما ذكر الله يكون في كل مفردات اليوم والليلة بأن تكون هذه المفردات كلها في سبيل الله، وعلى هدي الله، وتستلهم مقصود الله، وتبتغي مرضاة الله في كل عمل، وفي قضاء كل حاجات البشر من العبادة للترفيه.
الجهاد بالقتال يحتاج إلى صبر ساعة، وإلى بذل الروح دفعة واحدة، وفي غير ساحات المعارك نحتاج لأحوال وأوضاع وسلوكيات واهتمامات وبذل وبرامج وجهود أسميناها "الجهاد المدني"، وأسماها النبي المصطفى الذي لا ينطق عن الهوى "صلى الله عليه وسلم" "الجهاد الأكبر".... حين عاد من ساحة المعركة، ومن مواجهة الغزو فقال: عدنا من الجهاد الأصغر ـ يقصد جهاد العدو الظاهر المعروف ـ إلى الجهاد الأكبر، إنه جهاد الحياة، جهاد بحجم الحياة، ولكن أكثر الناس لا يعلمون!!
اللهم اهد قومي.
استمع إلى الحلقة 20 والحلقة 22 من فش غلك
واقرأ أيضًا
على باب الله: حروب غزة التي بدأت / على باب الله: الطريق إلى غزة