استكمالاً لسلسلة اغتيالات الحرية، هذه المرة من غزة.... ذلك البلد الصامد والذي لن ينهار أبدا بإذن الله، حلقة جديدة من مسلسلة الاغتيالات ولكن هذه المرة لها طابع خاص ومتميز بعكس جميع ما سبق... إنها غزة التي تأبى أن تلين، ولن تسلم مهما طال الزمان..... حقاً إنها موطن العزة.
يوم الأحد الموافق 1/2/2009 كان يوما هاما لنا جميعاً أعضاء فريق اتحاد الأطباء العرب المتجه إلى غزة، لم نكن متأكدين أنه بإمكاننا العبور من خلال معبر رفح المصري إلى الجانب الآخر... تلك الأرض التي كنا جميعاً في شوقٍ إليها وإلى أهلها راغبين في تخفيف ولو أقل القليل من المعاناة التي يعيشها هذا الشعب الباسل المقاوم كلٌّ في مجال تخصصه... كانت انطلاقتنا في حوالي الساعة السابعة من صباح الأحد 1/2/2009 متوجهين إلى معبر رفح، وهناك انتظرنا أمام المعبر قرابة الست ساعات منتظرين اللحظة الحاسمة للعبور إلى رفح الفلسطينية... فأثناء الانتظار أمام بوابة المعبر وصل النجم تامر حسني متوجها إلى غزة لمناصرة أهلها... ولم يلبث إلا دقائق معدودة وقد عبر البوابة متجها إلى غزة!! اللهم لا اعتراض...
وفي حوالي الساعة السادسة مساءاً تقريباً تمكنا من الدخول حامدين الله عز وجل.... تاركين خلفنا يوما من العناء والانتظار، وعلى الجانب الأخر -رفح الفلسطينية – وجدنا النقيض تماماً حفاوة في الاستقبال وسهوله فائقة في إتمام الإجراءات وبسمة تجعلنا ننسى عناء الطريق... وجوه بشوشة رغم المحن.
كان في انتظارنا الأتوبيس الخاص بوزارة الصحة حيث أقلنا من المعبر إلى مستشفى الشفاء، وكان معنا على الحافلة شاب فلسطيني وكان هو مرشدنا ومستقبلنا الأول عند المعبر، حيث أخذ في توضيح معالم الطريق إلى أن وصلنا مستشفى الشفاء حيث أقمنا. وهناك التقينا بالعديد من الأطباء المسئولين مرحبين شاكرين لجهودنا وأعددنا خطة عمل الغد ثم توجهنا إلى غرفنا في انتظار أن يأتي الصباح على شوق.
وفي صباح اليوم التالي توجهنا إلى مستشفى الأمراض النفسية الوحيد في غزة، وكان لنا لقاء مع أعضاء فريق العمل النفسي بالمشفى ثم بعدها توجهنا إلى أولى المناطق المنكوبة.
قيل أن من سمع ليس كمن رأى.... أما أنا فقد سمعت ورأيت.... نعم سمعت في الأخبار من القصص والحكايات ما يشيب له الوليد.... والآن رأيت بعيني وسمعت من أهل غزة الذين كانوا وما زالوا في قلب الحدث.
ارتكب العدو الصهيوني من المجازر ما تعجز الألسنة عن وصفه ويجزع الفؤاد من ذكره، مستخدماً أسوء أشكال التدمير والتعذيب والإذلال، والمشاهد لما حدث يتضح له جلياً ما يضمره هذا العدو الصهيوني الحقير من حقد وغل وكراهية لهذا الشعب الأعزل والذي يمثل الأمة الإسلامية أكملها...
لا أعلم حقاً من أين يمكنني أن أبدا... من الزيتون تلك المنطقة التي ارتكبت بها مجزرة في حق الإنسانية، فقد قام جنود الاحتلال بجمع جميع أفراد أسرة السموني التي يبلغ عددها حوالي الأربعين فرد ما بين أطفال ونساء وكبار السن في منزل واحد وقاموا بعد ذلك بقصف البناية التي تتواجد بها العائلة... ولم ينجو منها إلا فتى في سن السادسة عشر وطفلين وظلوا بين جثث ذويهم أربعة أيام كاملة...
بالله عليكم هل لدى أحد تفسير لما حدث؟؟ هل يهدف الاحتلال إلى القضاء على عائلات بأكملها؟؟ ولماذا إن صح هذا؟؟
"وسماح" وأختها "ألماظة" من نفس منطقة الزيتون ولم يبقى سواهما ووالدهما من كل أفراد الأسرة، ومزارع الدجاج ومزارع الماشية التي تم القضاء عليها عن بكرة أبيها.... وغيرها وغيرها مستخدماً أبشع الأساليب وأكثرها قسوة وضراوة.
وفي شمال غزة وهي أكثر المناطق تضرراً توجد "شهد" وأسرتها تلك الطفلة البالغة من العمر عاما وثلاثة أشهر، ولها من الأخوة تسع ووالداها... هذه الطفلة التي لابد أن يعلم العالم لا بل الكون بقصتها حيث قامت قوات الاحتلال بقصف منزلها بقنابل الفسفور المحرمة دولياً.... واستشهدت شهد ومعها أربعة من أشقائها التسع وزوجة أخيها ووالدها الذي التصقت أجزاء من مخه على جدار الغرفة وتحطمت الجمجمة واحترقت والدتها "صباح" وعندما هب أبناء عمها الاثنان لنجدتهم استشهدا... وقد قام أخوها البالغ من العمر 18 سنة بجمع الجثث ووضعها في سيارة من نوع الربع نقل وانطلق بهم متوجها إلى أقرب مستشفى حيث اعترضته قذيفة قوات الاحتلال وأجبرته على ترك الجثث والذهاب بعيداً إذا أراد أن ينجو... تمكن من حمل أمه والذهاب بها إلى أقرب مستشفى... وبعد انسحاب قوات الاحتلال توجه إلى مكان الجثث ليجد شهد وقد أكلت الكلاب الضالة نصفها السفلي...
ما أقساها لحظة عاشها الشاب الذي فقد سبعا من أفراد أسرته بالإضافة إلى أبناء عمه الاثنين حينا شاهد أخته الصغرى وقد أكلتها الكلاب الضالة... أي نوع من الأعداء هذا الذي اتخذ على عاتقه تدمير كل شيء حي؟؟ حتى الأشجار اقتلعوها... لم يسلم منهم لا الجماد ولا النبات ولا الإنسان.
قصصٌ وحكايات وكم هائل من الأحداث فقط في ثلاثة أيام فقد كان من المقرر لنا البقاء أسبوعا حتى نتمكن من إنجاز بعض الأعمال ولكننا فوجئنا ونحن أمام المعبر بطلب من المسئولين عن المعبر بكتابة إقرار أننا دخلنا على مسؤوليتنا الشخصية وبعد الدخول من الباب الرئيسي وفي صالة المغادرة كانت المفاجأة حيث تم إعادة الإقرارات التي كنا قد قمنا بكتابتها لإضافة الجزئية التي تنص على أنه لا بد أن نغادر غزة قبل يوم الخميس الموافق 5/2/2009 وبالفعل وقعنا على الإقرارات وما كان باليد حيلة وحسبي الله ونعم الوكيل.
رحلنا يوم الأربعاء تاركين خلفنا شوقاً للعودة إلى أرض الرباط وأهلها -اللهم انصرهم-... رحلنا عنكم بأجسادنا وتركنا قلوبنا وأرواحنا... بدمع العين يا فلسطين تركناك والله الذي لا إله إلا هو ما كنت لأرحل عنك قبل أن أصلي في مسجدك الأقصى...
أهلنا هناك بحاجة إلينا ونحن في أمس الحاجة إليهم لنحس بإنسانيتنا المفقودة... فرغم الحصار هم أحرار، رغم الشهداء والدماء أقوياء صامدون... ليتنا مثلهم صامدون.
تاهت مني الكلمات وعجز قلمي عن الكتابة ولم يسعني سوى أن أقتبس بعض الكلمات لكي أختتم بها هذه المدونة:
إني ذاهبة يا أمي
ألبس أكفانا زهرية
أحمل بين جوانب صدري
قلباً ينبض بالحرية
لا أخشى الموت يا أبتي
بل أخشى أن تبقى بلادي
وهما لوعود وهمية
وسلام لك يا أرض الرباط......
واقرأ أيضاً:
أخيراً...دكتور أحمد ناقش الدكتوراه / يا جزمة الهنا يا ليتني كنت أنا / اغتيال الحرية3