حين يكون الحديث عن سبب المرض معطلاً ،بديهي أن نبحث عن سبب المرض، وبديهي أن نحاول إزالته، هذا لو كان السبب موجوداً حالاً، وكان من الممكن إزالته. واقع الحال، في الممارسة الفعْلية للطب النفسي خاصة (التي تختلف جذرياً عن الشائعات المسلسلاتية) أنه لا يوجد لمعظم الأمراض سبب محدد واحد، وحتى إذا وجد فهو غالباً حدث في الماضي ثم أنه غالباً أيضاً لا يمكن إزالته. إذن لماذا يصر أغلب المرضى والأهل على معرفة السبب، برغم ذلك؟ أولاً: لأنهم لا يعرفون هذه الحقائق العلمية البسيطة الواضحة، وثانياً: لأنهم يتصورون أنه "إذا عرف السبب بطل العجب"، وحين نكرر لهم ونشرح أنه في معظم الأحيان إذا عرف السبب زاد العجب لأنه يثبت أنه سبب لا يستاهل ولا يفسر كل ما حدث، حينذاك، يتوقفون وهم في شك عظيم، ثم يتمادون حتى الرفض المنطقي لما نحاول إبلاغه لهم.
الحديث عن سبب الحمى كذا أنه الميكروب كيت، وبالتالي فالعلاج هو القضاء على الميكروب بالمضاد الفلاني يبدو منطقياً مثل الحديث عن أن سبب الإسهال هو تلوث في الطعام.. الخ، هذا، وذاك، غير الحديث عن سبب (أو أسباب) المرض النفسي، وبالذات المرض العقلي، مجرد الحكي عن المشاكل التي حدثت في الماضي لا يحل هذه المشاكل، وإشاعة أن التفريغ "وأطلع اللي جوايا" المشهورة، ليست علاجاً بل أحياناً ما يكون الحكي هو بمثابة تثبيت لما حدث ومضاعفة لأثاره السلبية، وكأن الحكي هو إحداث له من جديد. بل أحياناً ما يكون وصف الأعراض، باستمرار مثل شرح تفاصيل المعاناة في حالة الاكتئاب، هو بمثابة الإصرار عليها وليس التخفيف منها.
المطلوب من الطبيب النفسي أن يحترم رغبة الأهل والمريض في السؤال عن السبب، ولكن دون اختزال المرض إلى المفهوم الشائع، قال ماذا؟ ليريحهم! المطلوب هو تقديم جرعة من العلم الحقيقي، والتعليمات الواضحة للمريض والأهل على السواء. المطلوب هو التركيز على "إذن ماذا"؟ بدلاً من "لماذا" تبريراً، أو فرحة، أو تأجيلاً.
المريض يشفى بما نفعله معه، بما يفعله هو بتوجيهنا ومشاركته، بدءاً من الآن، وليس بتخريج "اللي جواه"، صورت مرة ذلك شعرا ناقدا يقول: ولحد ما يهدى الموج، واشتري عوامة وأربطها على ساري الخوف، يالله نقول ليه؟ كان إمتى؟ وازاي؟ الأْ هَّما، يبقى أنا مظلوم!! شكر الله سعيك".
نشرت في الدستور بتاريخ 21-12-2005
اقرأ أيضا:
تعتعة نفسية: هذه المؤتمرات الرائعة (الملتبسة) / تعتعة نفسية: الشذوذ والنبوغ والطب النفسي / تعتعة سياسية: أقسم بالله أن لهسهسة البحر أو هديره نغماً آخر!