هل هناك ما يجمع بين جريمة قتل المرحوم تاجر الأدوات الكهربائية في عيادة أستاذ الطب، وبين قتل الجميلة المرحومة في دبي؟ أنا أتساءل عن الجريمتين ولا أتعرض لأي شخص بذاته، انتظاراً لحكم المحكمة، بغض النظر عما جاء في الصحف، أما الحكم النهائي فهو للحق العدل المنتقم الجبار سبحانه وتعالى. أنا أتكلم عن "الدالّ" وليس عن "المدلول" كما علّمنا "جاك لاكانْ"، ربما لهذا أتحفظ ابتداء على ما قد يتطوع به الزملاء النفسيون –بحسن نية- من كلام عن التشخيص، والتصنيف، والعقد الخاصة، والتحليل، أو حتى التبرع بالفتوى عن مدى المسؤولية وتوصيف الشذوذ نفسياً.
حكايتان
رجل أعمال متهم بالتحريض على قتل سيدة جميلة لها تاريخ حافل بالرجال والمال والمواهب المتعددة، وقاتل مأجور ينفذ الجريمة بتحريض رجل الأعمال، ويشوه الجثة بعد طلوع روح المرحومة. رجل الأعمال هذا يملك نقوداً كثيرة جداً، أنا لا أعرف معنى كلمة مليار، لكن يبدو أنه لا بد من إضافة عدد من "الجِدّانات": جداً جداً جداً جداً، هذا الرجل يريد أن يشعر بأنه يملك هذه النقود "جداً"، وأن لها فائدة "لذيذة" له "جداً"، فلا بد أن تكون هناك وسيلة لكي يتمتع بما يملك "جداً"، فيروح يشتري ببعضه "مَنْ"(وليس فقط "مَا") يريد، ويلتذ أو لا يلتذ، وهو يعمى أو يتعامى عن أن "مَنْ" اشتراه هكذا لم يخترْه أصلاً، بل منحه بضاعة قد تكون لذيذة لكنها قصيرة العمر، تنفع أو لا تنفع، فيزداد عطشاً، وحين ينتهي العمر الافتراضي لهذه البضاعة، أو تثبت أنها مغشوشة (والبضاعة البشرية عمرها أقصر، وغشها أسهل)، أوحين يلوح في الأفق مشتر أكثر ثراءً، أو رجل أكثر فحولة، تفسد الصفقة، فتقوم قيامة صاحبنا ويحرض ويقتل ويمثل بالجثة... إلخ.
الرجل الآخر هو أستاذ ابن أستاذ (عرفته شخصياً) كان طبيباً، عالماً، مربيّاً، قدوة حقيقية، لكن يبدو أن الابن لم يرث من أبيه إلا قشرة النجاح، وغطاء المعلومات (لا العلم أو المعرفة)، فهو لا يتبع مسيرة أبيه مكتملة، وإنما يروح يختزل وجوده في توظيف كل ذلك وغير ذلك في جمع كل ما يمكن احتواؤه وتكثيره (من التكاثر) من مال وعقارات وأوراق مالية وحاجات، وذلك من خلال عمل يضيفه إلى ميراثه الذي اختلف حوله مع أهله، بما ترتب على ذلك من عقوق أمه، وقطع رحمه، ليصبح وجوده مختنقاً في هذا السنتيمتر من النقود والأشياء، فلا تتحقق له أية درجة من الأمان، فيزداد عطشاً أيضاً، وبمجرد أن يتأخر عليه شريكه المتواضع في سداد مبلغ عُشْرِ معشار ما عنده، يشعر داخل داخله أن وجوده كله مهدد بالفناء إن تأخر له مليم نتيجة لبطء إجراءات التقاضي! لاسترداد المبلغ الرمز! هذا المسكين جمع كل لذته في هذا السنتيمتر من العدّ وإعادة العدّ لما يملك من نقودٍ ومعلومات!، فهو يحصل على لذة أخرى ليس فيها جميلة الجميلات، ولا تنافس المعجبين في سوق المتعة، ولا كل هذه التعقيدات الفنية، وهو حين شعر بتهديد لبعض مالِهِ، الذي يمثل كل ما لَهُ، أي كل وجوده: توكل على الشيطان، وقَتَل وقطّع وشوه ومثــّل.
ما الذي يجمع بين هذا وذاك؟
واضح أن المال مهما بلغ، ملايين أو مليارات، جنيهات أو دولارات، لم يحقق لأي منهما أي شيء يبرر حياتهما الحقيقية.
يتكرر هذا السيناريو، بلا انقطاع، مع اختلاف الأسماء والأماكن والوسائل واللغات، ولا يحقق لأي واحد من هذه النماذج ما يبرر استمراره بشراً مثل البشر، بل على العكس، يسهل له أن يرتد إلى بدائية يأبى أي حيوان أن يمارسها إلا حفاظاً على حياته أو نوعه.
لا أحد، برغم شيوع هذا السيناريو عبر التاريخ بطول الدنيا وعرضها، يريد أن يحسن قراءة معناه ليعدّل حياته ويضبط خطاه، إذا عَرَف من خلاله وظيفة ما عنده من أموال وكيف يحقق بها إنسانيته أولاً، ثم خير ونفع ناسِهْ تالياً، وأيضاً ربما يعرف أنه قد يستطيع أن يكون بشراً سوياً جميلاً، حتى بدونها.
أقسم بالله العظيم أن لمنظر طلوع الشمس طعماً آخر، وللغمامة التي تغطيها ثم تكشف عنها جمالاً آخر، ولهسهسة الموج أو هديره نغماً آخر، وللجنس الذي يأتي مختاراً طيباً إلهياً نبضاً آخر، ولرائحة هواء الصباح في الخلاء نكهة أخرى، ولهذا الكلام معنى آخر.
كل ذلك طبعاً بعد أن يحصل كل منا على ضمانات المأكل والمسكن والمواصلات والعلاج وفرص العمل!
وإلى أن يحدث ذلك، سيظل ما جرى هو الحل لمن يستطيعه، وعلى النفسيين أن يمتنعوا عن التشخيص.
نشرت في الدستور بتاريخ 24-9-2008
اقرأ أيضا:
تعتعة نفسية: الشذوذ والنبوغ والطب النفسي / تعتعة نفسية: سبب المرض / لزوم ما لا يحُكى... ما دام الأمرُ كذلك!