الوقت صباح الجمعة، وأنا أهم بكتابة تعتعة اليوم، وإذا بالسكرتارية تقدم لي تعليقات أصدقاء الموقع الخاص بي، على قصة قصيرة قديمة، كتبتها منذ سنوات (1995 ونشرت في طبعة محدودة سنة 2000)، ثم أعدت نشرها يوم الاثنين الماضي في الموقع الخاص بي، بهذا العنوان الجديد. جاءت بعض التعليقات، أغلبها شفهية، باعتبار أنها قصة ترمز إلى الحالة السياسية، الآن، هنا أو هناك. وأنا لم أعد أحب حكاية الرمز هذه، لا في الإبداع ولا في النقد، ولا في الأحلام، ولا في قراءة مرضاي نصوصاً حية، مع أنه بدون الرمز لا تكون لغة، وتضيع حياتنا هباء ونحن لا نعرف كيف نختصر المعاني إلى ما يمثلها.
المهم: أعدت قراءة القصة، وفهمت –قليلاً- لماذا ذهبت تأويلات الأصدقاء إلى ما ذهبت إليه، ووجدت أنه "لو كان الأمر كذلك" فقراء الدستور أولى.
خذ مثلاً حكاية التوريث، لم يعد فيها شيء يقال أكثر مما قيل، و"أصبح الأمر كذلك" من واقع الإعلام الرسمي على الأقل، حتى كاد المتابع يتصور أنه قد تم فعلاً، وأن ثمة رئاسة فعلية، ورئاسة شرفية موكل بها مهمات السفر، وبعض التصوير، وإلقاء الخطب الرسمية جداً، وأن الوقت المتبقي هو مخصص تماماً لتجهيز الاحتفالات، وربما لتنسيق التبرير إن لزم الأمر، مثل: أن ذلك أدعى للاستقرار، أو: واشمعنى راجيف غاندي، والراحل غير المأسوف عليه دبليو بوش، وزوج المرحومة بنظير بوتو، واسم النبي حارسه وضامنه بشار الأسد بعد المرحوم والده والمرحوم أخيه، وأنه: ملك الملوك إذا وهب، لا تسألن عن السبب...، "الوطني" يفعل ما يشا، فالزم حدودك بالأدب! ولكن عنوان قصة الموقع القديمة هو "لزوم ما لا يُحكى"، وليس: "ما لزوم حكي ما لم تعد ثمة فائدة من الحكي فيه".
فلماذا ذهبت التعقيبات إلى غير ما قصدته، وغير ما يعنيه العنوان.
إيش عرفني؟
القصة
-1-
.. قالت "تماضر" إنها تعرف "ما حدث" بالتفصيل، وإن كانت لا تريد، ولا ترضى، أن تتحدث فيه؛ لأنها لا تقبل أن يتحدث أحد عنها شخصياً بمثل ذلك، خاصة في غيبتها، وبالتالي، فهي لن تتحدث عما حدث. ثم راحت تحكي وتحكي وتحكي، وكأنها لا تحكي كل شيء بالتفصيل الممل، وكانت على يقين من أنها لم تخالف تحفظها المبدئي...
وأكملت.
-2-
فانبرت "إقبال" تبرر "ما حدث" مؤكدة أنها لم تكن تعرف، ولم تكن تتعمّد أن تعرف، وأنها لم تدركه بحجمه الحقيقي، إلا بعد زمن طويل جداً. جداً. وحتى الآن، هي لم تـُــلِـم بكل أبعاده، ثم إنها حين أدركت حقيقة ما جرى، وبعد الدهشة الأولى، علمت يقينا أنه لم يحدث من أصله، أو على الأقل لم يحدث كما صّوروه أو تصوروه .
وصمتت.
-3-
أما "اعتماد" فإنها لم تبال أصلا بما حدث، وقالت إن المهم هو ما يحدث، لا ما حدث. وقالت إنها تفضل أن يحدث الآن، إن كان لا بد أن يحدث، وإنها خائفة، وإنها تشعر بقشعريرة غير مناسبة، وإنها في أشد الحاجة إلى ألا تكون وحيدة، وأن تعيش لحظتها هذه بوعي متفجر وطازج، وقالت إنها أخيراً تشعر أنها تستطيع. صحيح أن ما يحدث الآن، ما يمكن أن يحدث الآن، لا يختلف كثيراً أو قليلاً عما حدث، لكنها تستطيع.
ثم تراجعتْ.
-4-
أخذت تماضر ترسم مثلثـّا بسبابتها على سطح المائدة، ووضعت في وسطه نقطة غير ظاهرة، فنهرتها إقبال. وتذكرت -بدورها- كيف أصيبت بالهلع حين وقعت قدمها أثناء ذهابها إلى المدرسة الابتدائية، على الشق الفاصل بين بلاط رصيف الشارع، وكانت حريصة طول الوقت، طول العام، ألا يحدث هذا مرة ثانية أبداً.
وكانت اعتماد -في اللحظة ذاتها- تأخذ شهيقاً طويلاً هادئاً، وكأنها ترتشف شراباً شهياً. وطال الشهيق ناعماً عميقاً، حتى كادت تطير من على الأرض بلا أجنحة.
فابتسمت تماضر راضية.
-5-
وحين عادت "أم محمد" من مهمة التسوّق المحدودة التي قد كلَّفْنَهَا بها، وجدتهن في هذه الحالة من النشوة والبلبلة والندم والأمل والحسرة والحركة في المحل، فلم تذكر لهن ما رأته في الجمعية التي كانت استهلاكية، مع أنها كانت في أشد الحاجة لأن تقوله لأي أحد.
نظرت "أم محمد" إليهن مجتمعات يتهامسن بصوت عالٍ، ثم نظرت إلى كل واحدة على حدة، وقدّرت أنه لا لزوم لأي كلام، ما دام الأمر كذلك.
نشرت في الدستور بتاريخ 26-11-2008
اقرأ أيضا:
تعتعة نفسية: سبب المرض / تعتعة سياسية: أقسم بالله أن لهسهسة البحر أو هديره نغماً آخر! / نجيب محفوظ: بداية بلا نهاية