هل يحق لواحد مثلي لا يفهم في الاقتصاد، ولا يعرف الفرق بين الدخل القومي ومعدل النمو، ولا بين التضخم ومتوسط دخل الفرد، هل يحق له أن يتكلم في الاقتصاد؟ قال لك: لا، لا يصح، فأزحت الرد جانباً وقررت أن أمارس حقي كمواطن جاهل، يضار، أو له علاقة بمن يضار من الناس، من أثر أية مصيبة اقتصادية والعياذ بالله، هذا المواطن امتحنه الله بعقلٍ ناقدٍ، ليستعمله ما أمكن ذلك، فقال:
الأرجح أن التعامل بالنقود ظهر مؤخراً في تاريخ تطور البشر، وأن التعامل بالشيكات (النقود البنكية) تم بعد ذلك بكثير، ثم ظهرت البطاقات الائتمانية (الفيزا وما إليها) لتضاعف المسافة بين وعي صاحب النقود وقيمتها الموضوعية الفعلية في حياته، لتتحول علاقته بالنقود إلى علاقة بالأرقام والرموز على أوراق غامضة (بالنسبة لي على الأقل). أظن أن كل هذا كان لازماً لإمكان تبادل المنافع والسلع والمصالح.
لكن يبدو مؤخراً أن النقود بكل تجلياتها (في شيكات أو بطاقات أو خلافه) قد استقلت بذاتها عن أصلها كوسيلة لاختزال وتسهيل التعامل، وأيضا كوسيلة لتحقيق الغرض مما تمثله.
النقود ظهرت لخدمة الإنسان، بالمعنى الحقيقي لما هو إنسان، بدءاً بتأنيس صاحبها بشراً سوياً، أظن أن الأمر لم يعد كذلك، فقد أصبح الإنسان (بدءاً بصاحب النقود نفسه) هو الذي في خدمة النقود، وأصبحت النقود، في خدمة النقود، فراحت تخلّق لنفسها وسائلها –بالنقود أيضاً- من حروب وقتل ومناورات كذب وتجارة داعرة، وألعاب استغلال معولمة، وتخليق لغرائز استهلاكية مصنوعة. هكذا اكتسبت النقود آليات متوحشة بذاتها لذاتها، حتى صارت مثل الروبوت الذي استقل عن صانعه واستدار يتحكم فيه!! اشتعل لهيب النقود في وقود النقود بتوليد ذاتي مثل النار التي "تضري إذ ضَرّيْتموها فتضرمِ"
بأسلوب آخر: المفروض أن المال –مهما بلغ– ليس له قيمة في ذاته لذاته، وأنه وسيلة عصرية حديثة لتحقيق أهداف الإنسان الفرد، والجماعة، في العدل، وتكافؤ الفرص، وحقه في إتاحة المساحة والأدوات لإبداع ما يعينه على مسيرة تطوره، هكذا كان الأمر عبر التاريخ بالنسبة لمعظم إنجازات الإنسان من وسائل ابتدعها فارتقى بها، لكن يبدو أن الأمر لم يمض في الاتجاه الطبيعي بالنسبة للنقود، الذي حدث أن الناس، فرادى وجماعات أساؤوا استعمال هذه الوسيلة فلم تعد تؤدي الهدف منها لصالحهم شخصياً، أو لصالح (النوع) الناس، فظهرت نظم جديدة تنزع من الأفراد وتجمعاتهم هذا الحق في استعمالهم لما عندهم من نقود، ما داموا قد بلغوا هذا القدر من السفاهة، وتسلمت الدولة هذا الحق (النظام الاشتراكي والشيوعي) نيابةً عن الأفراد، لكن الدولة هي ناس أيضاً، ناس بهم نفس نقص الإنسان المعاصر أفراداً، فحل سوء استخدام السلطة (بما فيها سلطة المال) من قبل الدولة محل سوء استخدام الأفراد لنقودهم، فاتسعت الهوة بين النظام الاقتصادي الإصلاحي الجديد والقيم التي نشأ لتحقيقها (العدل والإبداع، فالتطور) فانهار النظام الاشتراكي، ليس لأنه خطأ في ذاته، ولكن لاتساع الهوة بينه وبين أغراضه الرائعة حين فشل التطبيق.
ارتدت النقود إلى الأفراد، ففرحوا وهللوا وأغلقوا أبواب التاريخ عليهم بزعم أنها "النهاية"، وتفرغوا لمهمة أن يعدّوها عدّاً، ليزيدوا منها لذاتها بذاتها، فإذا بروبوت المال ينتهز فرصة الظلام والتفرد بالساحة، وينطلق غشوماً يصنع أي شيء، وكل شيء، بغض النظر عن وظيفته الأصلية، فاشتعلت الحروب أكثر شراسة وأبشع قتلاً، وامتد الإجرام والدمار والإبادة إلى كل الأضعف من أفراد النوع، ثم ارتد إلى أصحاب المال أنفسهم يتعسهم ويشوه وجودهم البشري بشتى أنواع الدعة والاغتراب، حدث ذلك حين استقلت الشركات العملاقة عن الأوطان، بل وأكاد أقول استقلت النقود عن الشركات!!! (لا أعرف كيف)، فاتسعت الهوة من جديد بين النقود ووظيفتها، أكثر بكثير مما حدث في تطبيق الاشتراكية، فتصدع النظام الاقتصادي الجديد في الوقت بدل الضائع بعد نهاية التاريخ (!!) ليعلن بذلك احتمال تصدع التاريخ الإنساني كله، حتى حاضره الملتاث، ويلوح شبح الانقراض ما لم يلحق البشر أنفسهم، ليس بضخ النقود في البنوك، ولكن بضخ إعادة تنظيم الأمور لتصبح الغاية غاية، والوسيلة وسيلة، وألا يقاس نظام اقتصادي بمدى لمعان منطقه على الورق، أو فشل نقيضه، ولكن يقاس بقدرته على تحقيق أهدافه (أو ما يزعم أنها أهدافه) لصالح البشر في المرحلة الراهنة وما بعدها، على أرض الواقع.
أقرأ كلمة "التكاثر" (في سورة التكاثر) بمعنى "التراكم"، وأرى وجوه الملتاعين من الصدمة المالية الجارية، وقد رأوا جهنم "عين اليقين"، وأخشى أن أُسأل –شخصياً- "يومئذ عن النعيم"، فأستعد للإجابة.
... مثل ذلك جاء في كل الأديان والفلسفات الصحيحة.
نشرت في الدستور بتاريخ 22-10-2008
اقرأ أيضا:
لزوم ما لا يحُكى... ما دام الأمرُ كذلك! / نجيب محفوظ: بداية بلا نهاية / تعتعة سياسية: متواطئــون!!!