ما زلت غارقا لا أستطيع الخروج ولا أريده!!
قال الناس ولم أقل، جمعوا الأوراق والأقلام وشغلوا المجالس بكلام جديد.
ذهبوا وحضروا، غضبوا وسكتوا، صرخوا ثم تعبوا، فقدوا صوابهم ثم استعادوا إيقاع الحياة الرتيب... إلا من رحم نفسه، ورحمه ربه، وأنا معهم، مع هؤلاء الذين ما زالوا يعيشون في رحاب الحدث، تلك الأيام المعمدة بالدم، والمجللة بالفخر على الشهداء والصامدين، وبالعار على من خذلوهم أو استبقوا العجز، وتحايلوا على خيبة الأنظمة أو ضعف حيلتهم الشخصية أو سقم إدراكهم وغياب مهارتهم في خدمة قضية شريفة، فسقطوا فيما أسميه: الاستهبال الاستباقي، وهو أن تسوق "التلاكيك" حتى لا تعمل شيئا، ولكن تطلق الحجج السخيفة، والكلام الذي يشبه روث البشر لتدين به أي أحد، وتعتقد أنك بذلك تنجو بنفسك!!!
أما أنا فقد داهمني القصف الجبان وسط تفاصيل حياتي الرتبية حينذاك، وما زالت روحي تتحرر وتتطهر، وأدعو الله ألا تضيع مني معالم الطريق حتى يقبضني إليه طول عمر، وحسن عمل.
لفت نظري أن المطرب "محمد منير" قد قال لجمهوره في حفل "عيد الحب" المقام بدار الأوبرا بدلا من حفله الملغى في رأس السنة الميلادية الماضي بسبب العدوان على غزة، وأنقل عن الجريدة قوله: "كلنا غزة، وغزة إحنا، وربما تكون القضية أكبر من الشارع العربي نفسه، وإحنا في وضع عربي لم أكن أتمناه لجيلكم".
وفي نفس الحفل غنى "منير" أغنية "عدى النهار" التي كتبها عبد الرحمن الأبنودي، ولحنها الراحل "بليغ حمدي" ليغنيها "عبد الحليم حافظ" في أعقاب هزيمة يونيو 1967، التي يبدو أنها "أم الهزائم" في تاريخ العرب المعاصر، واختيار هذه الأغنية الآن ليكررها "منير" مرتين لا يخلو من دلالة عندي، وقوله أن ما حدث ويحدث أكبر من الشارع العربي هو ما كنت أحدث به نفسي خلال الأيام المنصرفة، فالحقيقة أن ما حصل في غزة يبدو أكبر من قدراتنا المتواضعة على الإلمام والإحاطة فضلا عن الفعل والتفاعل، وأرى أن تداعيات ما حصل ستكون واسعة الجبهات، وممتدة الزمن حتى تطمئن الجهات المعادية لفلسطين وحقوقنا في أرضنا، وفي أن نعيش بكرامة في عالم عاقل ومتوازن.
أقول لن تتوقف الضغوط والإجراءات والتداعيات والمعارك والخطط حتى تطمئن هذه الجهات إلى موت نبض المقاومة ودعم المقاومة، بل أية ممانعة في هذه الأمة المبتلاة بالجهل والغباء والسذاجة وضيق الأفق، وأمراض أخرى تحالفت عليها، واستسلمت الأمة لها محزونة أو لاهية!!
ولن يدرك أغلبنا أن ما سيواجهنا من تحديات واختبارات ومعارك وطحن عظام، وتأديب وتنكيل إنما هو بسبب الصمود الأسطوري الذي أظهرته غزة، وأذهلت به العدو قبل الصديق، وسيكون مضحكا أن الغافلين والمتغافلين والأغبياء ومدعي الغباء ربما يدفعون الثمن معنا أيضا لأن النقمة دائما ما تعم!!
إن الحصار على غزة وقصفها، والضغوط الرهيبة التي تمارسها جبهة عريضة من الأعداء والعملاء، والمعارك التي يخوضها الصهاينة على كل المستويات للإفلات من العقاب أو حتى المحاسبة، وتدويخ ودحر المقاومة ومن وإلى ويوالي المقاومة، هذا كله مستمر ويتسع، بينما لا يراه أغلبنا لأن نصفنا أعمى، والنصف الآخر أعشى، ولا تبقى إلا مبادرات ومحاولات أفلتت من الكذب المفضوح، والخداع الساذج، والإعلام الأهطل الأهبل، والتلاكيك الفارغة، وهذه المبادرات متنوعة ومتناثرة باتساع العالم وتحتاج إلى تعارف وتنسيق وتجميع كما يحتاج العميان إلى إرشاد وعلاج لمن أراد، أو كان له قلب يشعر، أو سمع يميز، أو عقل يفكر!!!
وأنا أقف في وسط التفاصيل، غارق في المشاعر، أتطهر وأتحرر، ويضيق صدري ولا ينطق لساني إلا في حلقات "فش غلك"، ويخذلني قلمي حين أمسكه لأكتب عن شيء هو أعظم من الحروف، وأكبر من الكتابة، والناس من حولي تقول: متى ستكتب؟! نحن ننتظر!!!
دعوني أحاول إذن...
۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞
وصلتني رسالتك يا حبيبتي... وقرأتها على شاشة كمبيوتر صغير، وكنت أنتظر العبور من معبر رفح، فتحت صندوق بريدي الإليكتروني لأجد ردك على رسالتي الأخيرة لك قبل سفري بساعات... تكتبين بالإنجليزية وتسألين الله أن يبارك روحي، وأرواحنا جميعا، وأن يغفر لنا، وقد تحقق بعض ما تسألين من أول لحظة دخلت فيها إلى غزة فقد كنت أشعر بسكينة مسيطرة، ومغتسل واسع تقفز فيه أرواحنا المتعبة لتغتسل وسط روائح الموت الذي مر من هناك لتوه!!
لا مشاحنات بين زميلنا وزوجته، وبعد عودتهما عادت المشاحنات!!
ولا شيء في النفوس غير جلال المشهد، وتدفق المشاعر ما بين الحزن النبيل، والصبر الجميل، والعرفان بالجميل لبشر صمدوا واستشهدوا دون أن يستسلموا، ودفنوا وهم مبتسمين، ولا أجد كلاما أقوله عنهم غير أنهم شرف للإنسانية كلها، ولكن أكثر الناس لا يعلمون!!
أحبك... تحياتي... أنت وأختك وأخوك أجمل ما في حياتي.
۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞
نفتقد إلى "طول النفس": نتحمس ونشتعل ثم نعمل قليلا، ثم نهدأ ونخمد ونعود إلى ما كنا عليه من قبل الحماس والغضب، بل وننسى غالبا كأن شيئا لم يكن!!
ألم أتحدث عن السذاجة والغفلة والهبل؟!
صادفني تقرير عن مظاهرات واسعة في "اليابان" انطلقت في يناير الماضي اعتراضا على نزع ملكيات أراضي زراعية لإقامة مطار جديد لطوكيو، وهو الأمر الذي رفضه المزارعون ملاك الأراضي وبعض الطلاب والنشطاء السياسيون، وما زالت الحكومة تفاوضهم، وما زالت المظاهرات المعترضة تخرج رغم أن الأراضي قد تم نزعها فعلا، وتم بناء المطار فعلا منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاما!!
وما زالت المظاهرات تخرج، والاعتراضات موجودة، فمن يذكرنا بما نسينا، ومن يقول لنا أن: خير الأعمال عند الله أدومها وإن قل، وأنه ما ضاع حق وراءه مطالب!!
تذكرت هذا وغيره حين رأيته أنيقا مثل عادته، وأظنه حافظ على نفس الأناقة والهدوء اللائق بأستاذ جامعي حتى حين اعتقلوه ظلما، وخربوا عيادته، وانتهكوا ملفات مرضاه، ويومها تألمت من أجله، وخرج من السجن بعدها ليواصل عطاءه في هدوء وأناقة ودأب ووفاء لما يؤمن به كما يليق بعالم، وكما ينبغي أن يكون... طول النفس!!
۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞
كم أنسى أن أكتب شيئا عن سيكولوجية الأبواب والأسوار والحواجز عند المصريين، وحين كنا على معبر رفح تذكرت وابتسمت!!
شوارع القاهرة وميادينها وبوابات مبانيها ذات تاريخ طويل يروي عن عقدة السلطة والرياسة والتحكم وإذلال الآخرين عبر وضع الأسوار أو فتح الأبواب بحساب، أو إغلاقها نكاية ورزاية وتعذيب الناس بهذا، وقد كنا على معبر رفح أحد أهم تجليات هذه العقدة النفسية المصرية القديمة!!
إنها العلاقة الملتبسة المشوشة بالمكان وحرية الحركة عامة، والدخول والخروج خاصة، وعندنا مقولة قديمة يكاد يرددها كل جالس على بوابة وهي: رايح فين سعادتك؟! هي وكالة من غير بواب؟!!
وحيث أنه هو "البيه البواب" اللي معاه مفتاح البوابة، فيصبح فورا صاحب حيثية وسلطة، وسيادة الحاكم بأمره مدير عموم شئون البوابة!!!
وبوابة معبر رفح هي مفتوحة ومغلقة في الوقت ذاته يقف عليها أناس تتلبسهم روح المسئولين عن باب أو بوابة، وبالتالي لا تمر الأشياء بسهولة، والناس واقفة بالساعات لأنها تريد مجرد المرور، وبعضهم واقف منذ أيام، والدخول بنظام القطرة قطرة ثم يتوقف ثم يستأنف التحكم فيمن يدخل من الجرحى إلى مصر ليتعالج، ومن وما يخرج من مصر ليدعم غزة!!
وساعة كتابة هذه السطور في منتصف فبراير فإن المعبر مغلق لا يمرر إلا الجرحى الذين تحسنت حالاتهم عائدين إلى غزة، ولأن شعبنا عبيط وأهبل فإنه لا يعدم أن يجد من يشتغله ويقول له خداعا أن بوابة المعبر لو انفتحت فإن أهل غزة جميعا أغلبهم على الأقل سيتركون غزة "الكخة" ويأتون ليشاركونا بُلهنية العيش الهادئ الهانئ الرغيد الذي يرفل فيه المصريون!! بلا خيبة!!
أزعم موقنا بما أقول أن معبر رفح لو انفتح فإن ما لا يقل عن مليوني مصري سيذهبون للعمل والإقامة في غزة لأن كل شيء في مصر أسوأ وأقذر وأكثر ضنكا ومعاناة، وغزة لولا الحصار يخنقها، والعدوان يقصفها هي قطعة من فلسطين المحتلة، ولا يسعني غير القول بأن غزة من قبل انسحاب الإسرائيليين، ومن بعده كانت وما زالت أنظف من أغلب القاهرة، ولا عشوائيات ولا طوابير خبز، ورغم الحصار فإن مستوى النظافة، والطعام المتوافر ـ بحسب الأحوال ـ وأحوال الناس وعاداتهم في الملبس والمظهر والسلوك والتعامل، غزة هذه هي مكان طيب للعيش لولا العدوان، فمن سيهرب من هذا ولا يعود إليه؟!
ومن يستبدل بهذا فوضى وزحاما وعشوائية وقذارة وسلوكيات منحطة وأكوام زبالة، متى يفيق المصريون من هذه الغيبوبة التي هم فيها؟!!
۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞
غزة تعيش على ما يتم تهريبه عبر الأنفاق، وحصارها عجيب، وكثيرون من العالم كله عازمون على فك هذا الحصار، ولا أعرف منطق السلطة في مصر حين تغلق بوابة معبر رفح، وهناك مليون طريقة ومستوى تدبير لضمان سير الأمور بهدوء ونظام لمصلحة مصر دخولا إليها أو خروجا منها، وللذين يتساءلون في بلاهة أو خبث: لماذا الهجوم على مصر؟!
أقول للمرة المليون أن الهجوم ليس على "أحمد عرابي" ولا "أحمد زويل"، ولا ميدان التحرير، ولا "شبرا"، ولا مصر تاريخا ولا حتى شعبا، إنما الهجوم بوضوح، وتحديد على إجراءات بعينها، وأهمها حالة المعبر الذي عندما كان مفتوحا حجز الأطباء على بابه بالأيام حتى عبروا، ومنع عبور جرحى ومساعدات كثيرة تحت دعاوى سيقت ظنا ممن يقولها أنه يخاطب شعبا أهطلا يستخفون به ويصمت ويمرر، فيزيدون في استخفافهم وترديد هرائهم، ويحاصرون من يفهم، ومن يتحرك، ويسجنون من يخترق حواجز المنع أو حمامات الهبل بالاستهبال، ولا يجد البعض إلا ترديد الهراء، وإفراز الفضلات من الفم والقلم بدلا من فتحات الإخراج الطبيعي!!
ومن أجل هذا يا عباقرة يا جهابذة فإن البعض يخلط بين الشيطان الذي يأمر، والشيطان الذي يخرس فلا ينكر ولا يستنكر، والشيطان الذي يكذب حين يتكلم، أو حين يكتب يرجو رضا السلطان!!
زعلانين قوي على سمعة مصر، وعاوزين الحقائق تدمغ البهتان في مواجهة من يزايد ومن يشكك؟!
العبوا غيرها!!
شوفوا لنا كلام آخر تضحكوا به علينا، وشوفوا كلام متماسك تردوا به عن "مصر"، افتحوا بوابة معبر رفح لتفكوا الحصار عن مصر لا غزة!!
* استمع إلى "حكايات من غزة" الحلقة 23، 24 من برنامج "فش غلك"
واقرأ أيضًا
على باب الله: الطريق إلى غزة/ على باب الله: فواصل... ونلتقي