...الهول، الهلع، الأشلاء، الموت، الدمار، البطولات، الاستشهاد، القوة، الخسة، النذالة: كلها معاً لا تريد أن تتركني برغم أنني لا أراها رأي العين. الدماء تغمر وعيي حتى أعلى الصدر وتكاد تزحف نحو مداخل أنفاسي، صيحات الأطفال وولولة الأمهات الثكالى يتشكل بها كل صوت يصلني، ولو كان بوق سيارة، أو أزيز فتح باب قريب، أو خشخشة صوت مصعد قديم.
بلغ بي الحال أن أتصور أن أي إلهاء عن فعل يمكن أن يحول دون الجاري هو فـُـرجة لا أكثر، الألم الساحق إن لم يدفع إلى فعل قادر يمكن أن ينقلب إلى مازوخية استمنائية قبيحة، كل المساعدات والأصوات والتبرعات والابتهالات والدموع كلها محترمة ومشكورة ورائعة، لكنها في نهاية النهاية قد تكون إجهاضاً لفعل أكبر وأهم، فعل يمكن أن نتفجر به إلى ما ينبغي. الخوف أن نكتفِي بتلك الأعمال الطيبة والنوايا الحسنة تنفيساً وتسكيناً، بمعنى أن تلك الأعمال الطيبة يمكن أن تجهض الغضب فالثورة، وأي إجهاض للغضب فالثورة هو تأجيل آخر، ودليل على أننا لم نتعلم من الهدنة، والتهدئة، والوعود، والكذب، والتدليس طوال واحد وستين سنة! إن أي فعل، أو امتناع عن فعل، يساهم في استمرار هذا الوضع، هو تواطؤ.
من لا يتحمل مسؤوليته فهو متواطئ، ما العمل؟
دع جانباً حكومات الكبار الذين لا نكف عن استعطافهم والاستنقاذ بهم وهم يخذلوننا سراً وعلانية، دع أوباما -الذي فرحنا بفوزه!!- وهو لا يعلق على موقف بلده من قرار مجلس الأمن، ثم وهو يصوت في الكونجرس مع 290 عضواً (مقابل خمسة) على حق إسرائيل في الدفاع عن النفس..إلخ!! ودع ساركوزي يصرح أن حماس تصرفت بشكل لا يغتفر، ودع ممثل الاتحاد الأوروبي يصرح أن ما تفعله إسرائيل هو حق دفاعي مشروع، ودع ميركل تنصح وتفتي وتحذر، وهي تحمّل حماس مسؤولية الدم الجاري، حتى أرسل لها منتقدوها على النت فنجاناً مليئاً بدم الأطفال، لن أذكر أن عليك أيضاً أن تدع تعبيرات وجوه الملوك والرؤساء والمسؤولين العرب، منهم لله، لأنك تدعها من تلقاء نفسك.
ثم إنك لا يمكن إلا أن تحترم جهود النفسيين وهم يتطوعون لتخفيف الآلام إثر الصدمات خاصة لدى الأطفال، وأن تعجب ببراعة الجراحين يلحقون أو لا يلحقون ما تطاير من أشلاء، على ألا تتوقف ذاهلاً وأنت تسمع أصوات عربات الإسعاف تخترق جدر الأنين المكتوم والصرخات الملتهبة وهي تعايرنا أننا ما زلنا أحياء، وأيضاً لك أن تجزع كما تشاء من منظر الأمهات يحتضنّ بقايا أطفالهن وهن ينتحبن، و...، و...، و... و... كما أنه من حقك أن تفرح بكل هذا الاحتجاج المظاهراتي، والهتافات المحرِّضة، ولكن لا تأمل فيها أكثر من قدراتها.
دع كل هذا جانباً دون أن تنساه، ودون أن تتقطع ألماً وهو لا يتركك تدعه، ودون أن تُفرّج عن غضبك بتعليق مغيظ أو تفسير دامع، دع كل ذلك واحترم ما لم تستطع أن تشارك فيه إيجابياً، فكل من شارك بأي شيء بأية طريقة، بأي قرش، بأي دواء، هو أفضل ألف مرة من مائة متفرج نعـّاب.
دع كل ذلك وتعال نبحث عن مسؤوليتك الأكبر، مسؤوليتي أنا، في هذه اللحظة تحديداً، "هنا والآن"، نحن الجلوس على مقاعدنا الآن نفسر، وننظـّـر، ونحكم، ونجزع، وقد نكتب شعراً، أو نرسم لوحة، أو ننتظر استلام جائزة!! وقد تضبط نفسك فخوراً برقة مشاعرك وأنت تذرف الدموع، وقد ينفجر الغضب منك إلى الهواء الطلق، قبل وبعد وأثناء اشتراكك في مظاهرة احتجاجية رائعة، هيا ننظر سوياً بعد أن صنفنا كل من على الساحة إلى "مسؤول"، أو"جبان" أو "خائن" أو "صامد" أو "بطل"، أو "شهيد" أو "متواطئ"، ننظر ماذا "نفعل"؟
إذا لم تنتبه، ننتبه، أنتبه، بعد واحد وستين عاماً (1948-2009) إلى أن كل ألفاظ "التهدئة"، و"الهدنة"، و"فض الاشتباك"، و"وقف إطلاق النار"، و"التسوية المؤقتة"، و"خريطة الطريق"، و"النكسة"، و"السلام"، كل هذه الألفاظ تكشفت عن مناورات مشبوهة قذرة، إذا لم ننتبه إلى ذلك، وأن ارتباطنا بها بهذا العمى، هو مسؤول عما يجري، فالأرجح أنك متواطئ دون أن تدري، وأنا مثلك.
انكشفت قواعد اللعبة مثل طلوع الشمس: إما حرب لا تتوقف أبداً أبداً حتى النصر، وإلا فهي الهزيمة الشجاعة بكل ثقلها وخزيها ومسؤولياتها، الهزيمة غير المؤجلة التي لا تحتاج إلى أسماء تدليل جديدة، وهي هي باعثة الألم الخلاق، فالقرارات الصعبة، فتسريح الجيوش النظامية، فتغيير الحكام، ليتحول الشعب المهزوم كله إلى جيش المعركة القادمة فالنصر الحتمي.
إما القبول بهزيمة مثل ألمانيا أو اليابان، أو بنصر مثل فيتنام... وإلا، فالكل متواطئ.
أرجو أن تلهمكم هذه الأفكار بأفكار أخرى، ولكن لا تطيلوا التفكير... بل اعملوا الآن.
نشرت في الدستور بتاريخ 14-1-2009
اقرأ أيضا:
نجيب محفوظ: بداية بلا نهاية / حين ينفصل المال عن صاحبه، وعن الناس! / تعتعة سياسية: قبلات وأحضان، وسط الدماء والأحزان